الطريق
الخميس 2 مايو 2024 10:17 مـ 23 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

عبد الحليم قنديل يكتب..عودة لإيران والكيان

لا هى كانت عملا خارقا لنواميس العادة ، ولا كانت محض عمل مسرحى تمثيلى ، المقصود ـ طبعا ـ هو الضربة الإيرانية الأولى من نوعها ضد كيان الاحتلال "الإسرائيلى" ، وقد تمت بعد نحو أسبوعين على شن ضربة "إسرائيلية" ، دمرت مبنى القنصلية الإيرانية فى دمشق ، وقتلت عددا من كبار قادة الحرس الثورى الإيرانى وأركان ما يسمى "فيلق القدس" .
وقد لا يكون من معنى للمزايدات ولا للمناقصات فى القصة كلها ، فلا قيمة لرأى يبدى ولا لتحليل يساق ، إلا أن يكون مبنيا على أساس من خبر صحيح ، فالمزايدون يقولون أن الضربة الإيرانية تفتح عصرا جديدا ، وكأنهم لم يسمعوا مثلا ، أن عراق "صدام حسين" ضرب "إسرائيل" بصواريخه قبل 34 سنة ، ويقول المزايدون أن الضربة المعنية أنهت زمن "الصبر الاستراتيجى" الإيرانى ، وأنها أكبر عمل عسكرى مفرد فى التاريخ الإنسانى ، فقد شاركت فيها مئات المسيرات وصواريخ "كروز" والصواريخ الباليستية ، لكن النتائج الفعلية للضربة كانت للأسف شبه صفرية ، رغم إفلات بضعة صواريخ باليستية من حوائط الصد الأمريكى والبريطانى والفرنسى ، ومن قواعد أقيمت كلها على أراض عربية ، وفى أقطار عربية أغلبها محطم ، يتقاسم النفوذ عليها الإيرانيون مع الأمريكيين وأخواتهم الغربيين وغيرهم ، ثم تكفلت حوائط الصد "الإسرائيلية" المنشأة والمطورة أمريكيا بالباقى فى غالبه ، وحرمت الضربة الإيرانية من تحقيق هدفها فى تدمير قواعد ومطارات "نافاتيم" و"رامون" والقاعدة "الإسرائيلية" الاستخباراتية فى "الجولان" المحتل ، اللهم إلا من أضرار طفيفة فى قاعدة "نافاتيم" بالنقب المحتل ، قد يكون بينها تدمير طائرة نقل "سى ـ 130" أمريكية ، وكان الحصاد الضئيل للضربة فرصة سنحت للمناقصات وللمناقصين على الجانب الآخر ، الذين عملوا بالمثل الشعبى السيار القائل "القرعة تتباهى بشعر رأس خالتها" ، وأفرطوا فى التغزل بكفاءة الدفاع الجوى "الإسرائيلى" والأمريكى ، وكأن "إسرائيل" هى الخالة الحانية على العرب المجزوعين المفزوعين من تنامى قوة إيران ، وكأن "إسرائيل" هى "الماشيح" المخلص ، وهى الأخت "تريزا" الراعية للأعمال الخيرية فى حوارى البؤس ، وأنه لا بأس من "غض الطرف" عن حروب الإبادة الجماعية للفلسطينيين ، التى تشنها الخالة "إسرائيل" والعمة أمريكا (!) ، والتفرغ لمشاهدة ممتعة على أفلام إبادة "إيران" (!) ، وقد وقع بعض الأبرياء فى خية ضلال المناقصين بالذات ، فإيران هى الأخرى ، ليست بريئة من دم مئات الآلاف ربما الملايين من العرب ، ومن تأجيج المشاحنات والحروب الطائفية فى أقطار المشرق والخليج ، وقد فعلت ذلك لخدمة مشروعها الإيرانى الفارسى المتلفع بالعباءة الشيعية ، وكان للعرب بالمفارقة دورهم الظاهر فى بناء المجد الإيرانى ، سواء بتكفير الشيعة العرب بالجملة ، ورميهم كهدايا فى جيب إيران ، أو بإخلاء الطريق أمام التمدد الإيرانى بدعم مالى ولوجيستى مهول لغزو "واشنطن" للعراق وتدمير دولته ، وقبلها بتخلى الدول العربية بالقطعة ثم بالجملة عن القضية الفلسطينية والصراع مع "إسرائيل" ، وتسليم مفاتيح القرار العربى للمتعهد الأمريكى ، يفعل بها ما يشاء لخدمة ربيبته وقاعدته "إسرائيل" ، وهو ما انتهى بنا إلى وضع بؤس وغياب شامل ، تحول به المشرق العربى بالذات إلى ملاعب مفتوحة لصدام الأقوياء ، وما من طرف عربى قوى ظل هناك ، مع مضاعفات انسحاب مصر من دورها المشرقى ثم عقد ما يسمى معاهدة السلام مع "إسرائيل" ، اللهم إلا من مليارات وراء المليارات من الدولارات ، دفعت بسخاء لتغذية وتضخيم أدوار جماعات إرهاب باسم الإسلام ، سرعان ما جرى استيعابها وتوظيفها من قبل أجهزة مخابرات أمريكية وغربية و"إسرائيلية" ، واستخدامها فى تعميم خطط "فرق تسد" ، التى أفادت إيران و"إسرائيل" معا ، وكانت استفادة إيران مرئية ، فقد سهلت أجواء الشحن والقتل الطائفى مساعيها ، وجلبت أغلب الشيعة العرب أفواجا إلى التابعية الإيرانية ، ومدت الحضور الإيرانى الاستراتيجى من سواحل الخليج إلى سواحل البحر المتوسط وإلى العنق الجنوبى الحاكم للبحر الأحمر ، ثم كان سهلا ميسرا بعد الفراغ والتفريغ العربى القومى ، أن تتقدم طهران إلى دور الحامى الحصرى لحقوق الشعب الفلسطينى ، مع كسبها لأدوار الحامى الأفضل للشيعة والمتشيعين العرب ، ووفق تفسير إيرانى صفوى ـ لا علوى ـ لعقائد المذهب الشيعى ، والتفاصيل يطول شرحها ، لكنها صنعت بالتراكم ملامح القوة الإيرانية الصاعدة ، إضافة للتطور الإيرانى الذاتى فى مجالات الصناعات العسكرية والصاروخية والنووية .
ومن هنا ، بدت إيران كأنها الند الوحيد الأقوى لكيان الاحتلال المندمج استراتيجيا مع فروض الهيمنة الأمريكية ، والمتطلع لتحالف وثيق مع القوى الزاحفة لمنافسة أمريكا على القمة الدولية كروسيا والصين بالذات ، والمحصلة مع ذلك كله ، أنه ليس صحيحا أن إيران مع "إسرائيل" تابعتان لأمريكا ، فهذه رؤية فانتازية عبثية بعيدة عن الوقائع والحقائق الصلبة ، وليس صحيحا بالقدر نفسه ، أن مصالح إيران متطابقة بالضرورة مع المصالح العربية المفترضة ، والحقيقة ببساطة ، أن إيران تخدم إيران بالبداهة ، وأن الدول العربية المعنية تخدم مصالح أمريكا و"إسرائيل" ، ولأمريكا وأخواتها نحو ستين قاعدة وارتكاز عسكرى فى دول الخليج والمشرق العربيين ، ولا مصلحة للأنظمة العربية المعنية إلا فى أن تبقى حاكمة ، وليس فى وسعها أن تكون إلا فى حماية الأمريكيين و"الإسرائيليين" حتى إشعار آخر ، وهو ما يفسر إعاقة وتعطيل الأنظمة المعنية لمبادرة مصرية بتشكيل قوة دفاع عربى مشترك فى قمة 2015 ، وتفضيلها البقاء تحت مظلة الحماية الأمريكية ، بل السعى إلى حماية "إسرائيلية" لا حقة ، قفزا فوق حقوق الشعب الفلسطينى ، التى لم تعد تشغلها ، اللهم إلا من باب طلب عطف وإحسان الراعى الأمريكى ، الذى يعطى الأولوية المطلقة طبعا لضمان أمن وتوحش كيان الاحتلال ، على نحو ما بدا فاقعا مجددا فى تسخير قواعده "العربية" لصد الهجوم الإيرانى على الكيان ، وإفشال أهدافه المعروفة مسبقا لواشنطن ، سواء بأعمال المخابرات أو عبر الاتصالات غير المباشرة مع طهران نفسها ، وهو ما أغرى الكثيرين بتصديق دعوى أن ما جرى مجرد فاصل تمثيلى متفق عليه ، وقد بدا كذلك بالفعل فى بعض مظاهره ومشاهده ، فقد حرصت طهران على إبلاغ واشنطن مسبقا بحدود الرد ، فوق أن حركة المسيرات الإيرانية البطيئة المستخدمة ، سمحت بوقت طويل وأكثر من كاف لاستعدادات الإحباط ، وقد كانت الصور علنية واصلة لعلم الكافة ، والمحصلة إجمالا ، أن الرد الإيرانى جاء رمزيا فى مغزاه ، ومحدود الأثر جدا فى نتائجه على الأرض ، وبدا ذلك مقصودا ولغرض فى نفوس صناع القرار فى طهران ، فهم كانوا يريدون إثبات مقدرتهم المبدئية على الرد رغم تنائى المسافات الجغرافية ، وكانوا يريدون طيا سريعا لصفحة المواجهة العسكرية المباشرة ، وكانوا يريدون توقيا لرد "إسرائيلى" وهجوم مرتد باتجاه الأراضى الإيرانية ، ثم ثبت أن حسابات إيران لم تكن فى محلها ، فليس من فجوة حساب كبيرة تفصل واشنطن عن تل أبيب ، فوق أن "بنيامين نتنياهو" رئيس وزراء العدو ، وجدها فرصة للهروب من إخفاق يطارده فى حرب "غزة" ، وحشد الرأى العام "الإسرائيلى" وراء ضربة انتقام من إيران ، يعرف أن واشنطن لن تمانع فيها لاعتبارات حرج الموقف الانتخابى للرئيس الأمريكى "جو بايدن" ، بل أن واشنطن تعهدت بالمساندة السياسية والدبلوماسية للضربة "الإسرائيلية" القادمة ، وفرض سلاسل عقوبات أمريكية وغربية مضافة على طهران ، إضافة للتنسيق الوثيق فى اختيار أهداف وحدود الضربة الانتقامية "الإسرائيلية" ، وكما شاركت واشنطن بحماس فى الدفاع عن "إسرائيل" ، فلا يستبعد أبدا ، أن تتشارك واشنطن مع "تل أبيب" فى هندسة الهجوم الانتقامى الوشيك ، الذى لم يجر بعد حتى ساعة كتابة هذه السطور ، فى وقت كانت تفضل طهران توقى الانزلاق إلى حرب واسعة مباشرة ، وصممت ضربتها المحدودة الرمزية على أساس تفضيلاتها ، ثم تجئ الرياح بما لا تشتهيه إيران اليوم ، وترغمها على استعداد لجولة أو جولات أخرى ، تستخدم فيها أسلحتها الأقوى هذه المرة ، وما لم تفعل إيران ، فسوف تعود إلى ما تسميه "الصبر الاستراتيجى" ، وتفقد فرص الانتقال إلى ردع استراتيجى هددت به ، ولم يؤت أكله فى الضربة الإيرانية الأولى لكيان الاحتلال المنافس لها على تقرير مصائر المنطقة ، فقد عاد الكيان إلى وضع الهجوم المباشر ، وإلى حروب العلن بعد عقود طويلة من حروب الظل مع طهران ، وقد يكون الهجوم المتوقع مزيجا من الضربات الظاهرة مع حروب الظل المخابراتية والسيبرانية ، وأى تردد من إيران فى شن هجمة معاكسة شديدة القوة ، يهدد بمحو كل إنجاز بلغته طهران طوال ما يقرب من خمسة عقود ، فقد بلغ صراع إيران مع الكيان إلى محطة حاسمة ، قد تكون فيها "عواقب الجبن أفدح كثيرا من عواقب الشجاعة" بتعبير الروائى المصرى الأشهر "نجيب محفوظ" ذات يوم بعيد .