قداسة البابا شنودة.. الشاعر الحالم.. السياسي!
قليلون، ربما، مَن يعرفون أنّ قداسة البابا الراحل «شنودة الثالث»، بطريرك الكرازة المرقسية السابق، كان يقرض شعرًا، لا أدّعى، طبعا، أننى أحفظ أشعاره كلها، أو حتى قرأتها كلها، لكننى لا أنسى، قط، تلك الأبيات التى يقول فيها قداسته مخاطبا مصرَ:
«جعلتُكِ يا مصرُ فى مهجتى.. وأهواكِ يا مصر عمق الهوى.. إذا غبتٌ عنك ولو فترة.. أذوب حنينا أقاسى النوَى».
لم يكن قداسة البابا الراحل شنودة، البابا رقم 118 من بطاركة الكنيسة الأرثوذكسية، مجرد راهب كبير، أو مجرد بطرك من بطاركة الكنيسة الأرثوذكسية العظيمة، لكنه كان علامة وطنية وسياسية فى تاريخ مصر، لم ولن تتكرر، فهو يقف شامخا كطوْد بين آباء وبطاركة عظام؛ مثل الأنبا كيرلس، والأنبا بنيامين، وغيرهما.
تخرّج قداسته في كلية الآداب في أواخر أربعينيات القرن الماضي باسم «نظير جيد»، وعمل بالتدريس فى مدارس الأحد، وتخصص فى دراسة التاريخ السياسى، والتحق بالجيش المصرى كضابط احتياط، وانكبّ عاكفا على القراءة والثقافة، حتى إنه ترأس جريدة مدارس الأحد، فانضم إلى نقابة الصحفيين، وكان أحد اهم كُتاب جريدة الجمهورية، وربما لا يعرف كثيرون أن للرجل ستين كتابا من تأليفه، باللغتين العربية والإنجليزية، ومن يتعمّق فى آثار قداسته يجده مصريا وطنيا حدّ النخاع، حتى إنه جعل كلمة (مصر) ترادف كلمة (عقيدة)، سواء كانت مسيحية أو إسلامية.
قداسة البابا شنودة فلاح صعيدى «عُقر» وسياسى محنَّك، فهو على مدار تاريخه بارع فى معالجة الأمور والمشكلات علاجا ناجعا، كأنه أمهر طبيب يصف الدواء، أو كأنه أمهر جرّاح يستأصل بمبضعه ما يوهن الجسد العليل، فهو سياسى يعى حقائق الأمور والأوضاع؛ يُناور و«يُتكْتِك»، ويحسّ بأي أخطار، ويستشرف الآفاق، ويحتوى أى موقف من شأنه أن يعصف بما حوله، على الرغم من أن قداسته كان يؤكد، فى كل وقت، أنه بعيد عن السياسة، ويؤمن بالفصل بينها وبين العقيدة وشؤون الكنيسة، لكننى لا أستطيع إخفاء إعجابى بكونه سياسيا من طراز فريد، ليس بمعنى الاشتغال بالسياسة والتنظير لها ولمفرداتها، لكن بمعنى أن رؤيته ومواقفه ومعالجاته كلها تنضح بالسياسة، كما لو اننا أمام فلاح مصرى سياسى بالفطرة والسليقة، ويكفى أن نعلم أنه بحكمته وسياسته استطاع أن يبحر بالكنيسة وبالوطن إلى برّ الأمان إبان اشتداد سطوة الإسلام السياسى وتوغل الجماعات الأصولية فى سبعينيات القرن الماضى، فبفضل تلك السياسة التى امتاز بها ومارَسها بالفطرة سلِمَت مصرُ من الخطر المسلح الأهلى الذى كان من الممكن أن يندلع، خصوصا بعد تلويح قوى أجنبية، وقتذاك، بمناورات خبيثة للدخول بين أبناء الوطن الواحد ابتغاء إحداث الفرقة والشرخ الوطنى، لكن ذلك كله لم يقع بسبب وجود قداسة الراحل العظيم على رأس الكنيسة المصرية الوطنية.
كان قداسته أول بطرك فى تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية العتيقة يتيح الفرصة لحملة الشهادة الجامعية لشغل المواقع الكنسية المؤثّرة، كما كان اول بطرك يسمح بأن تكون المرأة (شماسة)، بعد إذ كان هذا اللقب مقصورا على الرجال وحدهم، طوال التاريخ.
قال له الرئيس الأمريكى الأسبق، جيمى كارتر، لقد امتدحك الرئيس السادات كثيرا قبل زيارته للقدس (المحتلة) بستة أشهر، فما الذى حدث حتى يغيّر السادات رأيه فيك؟! فقال له قداسة البابا: باختصار؛ لأننى استخدمت سلطتى الروحية وحرّمت على أبناء الكنيسة زيارة القدس مادامت تحت الاحتلال الإسرائيلى، فلن يكون المسيحيون المصريون خونة الأمة العربية، ولن يدخلوا القدس إلا مع إخوتهم المسلمين، لا قبل ذلك.