الطريق
الثلاثاء 14 مايو 2024 09:53 مـ 6 ذو القعدة 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

مسلسل المداح.. كيف ينتصر البشر في معارك الجن والشياطين؟

مسلسل المداح
مسلسل المداح

يحظى مسلسل "المداح" أسطورة العشق الجزء الثالث من بطولة المطرب حمادة هلال، بمتابعة جيدة من عموم المصريين، بسبب العالم السحري الذي تدور فيه الأحداث، حيث يوظّف بطل العمل طهره وتقواه وقربه من الله في محاربة الجن والعفاريت التي تتلبس البشر وتفتنهم، في تيمة درامية وسينمائية ليست بالجديدة، فما هي الجذور التاريخية لهذه الفكرة؟ الصراع بين البشر والشياطين، هذا ما نسعى للإجابة عنه في السطور التالية:

في العام 1808 نشر الشاعر الألماني يوهان جوته (1749 - 1832) مسرحيته الشهيرة "فاوست" وهي مقتبسة من أسطورة قديمة لها الاسم نفسه، عن الشيطان "مفيستوفيليس" الذي قطع على نفسه عهدًا بإغواء الطبيب فاوست الشغف بالعلم والتعلم، وبالفعل يستغل الشيطان اليأس الذي تسرب إلى روح الطبيب بعد أن تخلى عن إيمانه وبدأ التفكير في الانتحار ليظهر له الشيطان ويعقد معه صفقة يشتري بموجبها روحه مقابل أن ينفذ جميع طلباته ليجعله سعيدًا في الدنيا، على أن يخدمه في الجحيم بعد أن يموت، وفق المعتقدات الأسطورية التي استند إليها جوته في كتابته.

فيما بعد وبالتحديد في العام 1945 يقتبس الممثل المسرحي المخضرم يوسف وهبي أسطورة "فاوست" ليحولها إلى فيلم سينمائي باسم "سفير جهنم"، عن شيطان يستهدف أسرة فقيرة ليفتنها ويغريها بالمال فيفرق شملها ويصرف أفرادها عن الإيمان بالله ويغرقهم في دوامة الرذيلة والمفاسد.

وفي مصر الفرعونية فإن المصريين القدماء اعتقدوا أن الأمراض والكوارث الطبيعية تتسبب فيها أنفاس الإلهة الغاضبة سخمت التي كانت تمثل عادة في صورة امرأة برأس لبوءة، وأن العلاج يتطلب تدخلًا من الكاهن وعب، أي "الطاهر"، ليسيطر على سخمت ويعيدها إلى صورتها المسالمة باستت القطة، وفق ما ذكره الباحث في علم المصريات إيفان كونج في كتابه "السحر والسحرة عند الفراعنة".

في سبيل نجاح "الطاهر" في أداء مهمته فإنه يتحصن بطهارته الجسدية بالمضمضة واستحلاب النطرون والاغتسال بالماء البارد ثلاث مرات يوميًا… والتقشف وحرمان الذات، والصيام بشكل عام وعن الروح في أيام التطهير، وهي تتراوح بين سبعة أيام واثنين وأربعين يومًا أو أكثر، وينقطعون عن الأعمال الدنيوية، ويمضون يومهم في أداء الخدمة الإلهية وتلاوة التسابيح، وفق ما ذكره "كونج".

ويربط "كونج" بين القدرات السحرية لـ"الطاهر" والعلم، فالكاهن في مصر القديمة طبيب وكاتب وحكيم، لديه القدرة على علاج الأمراض ولدغات الثعابين ولسعات العقارب والسيطرة على الأرواح الشريرة بفضل العلم الذي يمكنه من الاطلاع على كتابات الآلهة.

ويشير "كونج" في كتابه إلى حكاية أسطورية عن الأمير نانفر كا بتاح، الذي "قرأ كتابًا عن السحر كتبه الإله تحوت بيده فتعلم سحر السماء، والأرض، وعالم الظلام، والجبال والبحار، وعرف ما تقوله الطيور في السماء، والسمك في الماء، ورباعيات الأرجل في الجبل، ورأى السماء ترتفع إلى أعلى ومعها دورة الآلهة".

ويذكر "كونج" أن السحر كان جزءًا مهمًا في الإدارة الرسمية للدولة في مصر القديمة، من خلال تحصين الأماكن العسكرية بالطلاسم والرموز والتماثيل السحرية، التي يتم تفعيلها "عند العصيان".

ويستشهد بإشارة في كتاب "البلدان" لابن الفقيه عن حائط سحري كان يسمى "حائط العجوز" يصفه بأنه: "كان طلسمًا وكان فيه تماثيل، كلّ إقليم على هيئتهم وزيّهم، والدوابّ والسلاح، وكلّ أمّة مصوّرة في طرقها التي تجيء منها، فإذا أراد أهل إقليم غزو مصر وانتهوا إلى تلك الصور انصرفوا". أي أن الغزاة إذا قصدوا غزو مصر من الجهة الموضوع فيها الحائط فقدوا اتجاههم وتاهوا.

والسحر المصري نجد صداه في رسالة كتبها الفقيه الأندلسي الشهير، ابن حزم (994م - 1064م)، في رده على ما وصفه بافتراءات يهودية، عن تيه بني إسرائيل، حيث كتب: "ومن عجائبهم قولهم في نقل أحبارهم الذي هو عندهم بمنزلة ما قال الأنبياء: إن فرعون كان بنى في المفاز (الصحراء - صحراء سيناء) صنمًا يقال له باعل صفون (بعل)، وجعله طلسمًا باستجلاب بعض قوى الأجرام العلوية، ليحير به كل هارب من أرض مصر، وأن ذلك الطلسم حيَّر موسى وهارون وجميع بني إسرائيل حتى تاهوا أربعين سنة".

التفسير اليهودي المتأخر الذي يرفضه "ابن حزم"، لأنه يحول عقوبة التيه من عقوبة إلهية إلى عقاب دنيوي بفعل السحر المصري.

ليس كل ما يراه الإنسان أشباحًا فربما تكون هلاوس ناتجة عن تسمم بفطر الأرجوت، هذا التفسير يقدمه أوين ديفيز، أستاذ التاريخ الاجتماعي بجامعة هيرتفوردشاير البريطانية، في كتابه "السحر: مقدمة قصيرة جدًا"، إذ يشير إلى أن بعض من ادعوا أنهم سحرة كانوا يستخدمون نباتات سامة ومخدرة للتأثير على الضحايا، مثل نبات الشوكران الذي كان يمنح متعاطيه شعورًا بالتحليق عاليًا.

ويذكر "ديفيز" أن امرأة ممن وصفن بأنهن ساحرات أطعمت من يعملون لديها خبزًا من طحين الجاودار، وبعد أن تناولوه «أصابهم مس من الجنون» وغطوا في سبات ممتد وعميق، وحينما توقفت عن إطعامهم خبز الجاودار، تعافَوْا من هذه الأعراض.

ويفسر "ديفيز" ما حدث للعمال بأنه على الأرجح تناولوا الفطريات التي تنمو على نبات الجاودار والمعروفة باسم (الأرجوت)، الذي يحتوي على بعض الخصائص التي تسبب الهلوسة.

لا ينفرد "ديفيز" وحده بتفسير المس الشيطاني بأنه هلاوس تسببها الفطريات، إذ يتفق معه في هذا التفسير، الطبيب الإنجليزي سيسيل ألبورت مؤلف كتاب: ساعة عدل واحدة: الكتاب الأسود عن أحوال المستشفيات المصرية 1937 -1943، حيث يذكر حالة لسيدة كان يعالجها من نوبات صرع كانت تتخيل أنها زوجة الملك فاروق، ويعزي الهلاوس التي تعاني منها إلى مرض "البلاجرا" وهو أحد أمراض سوء التغذية الشهيرة التي تصيب الشعوب التي تعتمد بشكل أساسي في تغذيتها على الحبوب أو الخبز.

ويرى الباحث في الأنثروبولوجيا شوقي عبد الحكيم، في كتابه "مدخل لدراسة الفولكلور والأساطير العربية، أن خرافات الجن والشياطين والعفاريت وغالبية معتقداتنا وتصوراتنا التي ما تزال تتواتر في مجتمعاتنا المعاصرة، عن الجن ومواطنهم ومصاهرتهم للإنس وقبائلهم، والندَّاهات وسكان ما تحت الأرض ترجع بكاملها إلى العرب البائدين خاصة سكان الجنوب (اليمن) القحطانيين، الذي عاشوا في الألف الرابعة قبل الميلاد، نظرًا لتيسر اتصالاتهم المبكرة بالفرس المجوس في إيران.

ويذكر "عبدالحكيم" في كتابه أن اليمنيين اقتبسوا الأفكار الخرافية عن عالم الجن ونشروها فيما بعد إلى بقية شعوب العالم العربي، ومنه عبرت إلى أوروبا، وأن العرب نسبوا لسابقيهم من القبائل العربية البائدة انحدارهم من أمهات جنيات مثل قبائل جرهم، التي قيل إنها جاءت إلى الوجود من نتاج ما بين الملائكة وبنات آدم، وكذلك قبائل جديس وثمود والعماليق أو العمالقة في الشام وفلسطين.

ويشير إلى أن المرويات العربية القديمة تذكر أن حروبًا طويلة دامية وقعت بين قبائل الجن وقبائل الإنس من العرب، منها حروب بني سهم، الذين قتلوا ابن امرأة من الجن، عقب حجه وطوافه بالبيت، "فوقعت الوقيعة بين قبيلة الجني القتيل وبني سهم، وقتل الجن من بني سهم خلقًا كثيرًا، وكان أن نهضت بني سهم وحلفاؤهم ومواليها وعبيدها، وركبوا رءوس الجبال وشعابها، فما تركوا حية ولا عقربًا ولا خنفساء ولا هامة تدب على الأرض؛ إلا قتلوها، حتى ضجت الجن، فصاح صائحهم يطلب وساطة قريش بينهم وبين بني سهم، فتوسطت قريش، وانتهى النزاع".

ونجد هذه التصورات عن عالم الجن واختلاطهم وتفاعلهم مع البشر بالمحبة أو العداوة حاضرة بقوة في حكايات ألف ليلة وليلة، وفي حكاية جودر الصياد وأخويه مثلًا نجد الأخوة يقولون: "وكان والِدُنا قد علَّمنا حلَّ الرموز وفتح الكنوز والسحر، وصِرنا نُعالج حتى خدَمَتْنا مَرَدة الجن والعفاريت. ونحن أربعة إخوة ووالِدنا اسمه عبدالودود، ومات أبونا وخلَّف لنا شيئًا كثيرًا فقسَّمنا الذخائر والأموال والأرصاد حتى وصلنا إلى الكُتب فقسَّمناها، فوقع بيننا اختلاف في كتابٍ اسمه أساطير الأوَّلين ليس له مَثيل ولا يُقدَر له على ثمنٍ ولا يُعادَل بجواهر، لأنه مذكور فيه سائر الكنوز وحل الرموز".

وبالعودة للحديث عن مسلسل المداح، الذي يتناول فكرة القدرات الخارقة التي يكتسبها البشر بالتواصل مع الجن مثل كشف الكنوز والدفائن، أو الحب بين الإنسي والجنية أو الجني والإنسية، نجد كثيرًا من قصص ألف ليلة وليلة تدور في نفس الفلك، كما يذكر الكاتب والمترجم المصري ماهر البطوطي في كتابه "الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن.

ويشير إلى حكاية «قمر الزمان مع الملكة بدور»، وفيها يغضب أحد الملوك على ابنه لرفضه الزواج، فيُعاقبه بالحبس حينًا في أحد الأبراج، حيث تراه جنيَّة ساكنة فيه اسمُها «ميمونة ابنة الدمرياط»، أحد ملوك الجان المشهورين، وتقصُّ الحكاية عنها أنها تعجب بجماله وتحبه.

ولا يعد مسلسل المداح بأجزائه الثلاثة العمل الدرامي الأول من نوعه الذي ركز على علاقة البشر والجن، وكان بطله من يمكن أن نصفه بأنه معالج روحاني، حيث سبق للفنان الراحل نور الشريف معالجة الفكرة نفسها في مسلسل باسم «خلف الله» من إنتاج العام 2013، يليه النجم أحمد السعدني في مسلسل «الكبريت الأحمر» من جزأين، من إنتاج عام 2016.

تأخرت الدراما في معالجة الفكرة بينما سبقتها السينما بعشرات السنين، ومن أشهر هذه المعالجات: الإنس والجن عام 1985 من بطولة عادل إمام ويسرا، والتعويذة عام 1987 من بطولة عزت العلايلي ويسرا، وعاد لينتقم 1989 من بطولة عزت العلايلي وإيمان سركسيان، والفيل الأزرق من إنتاج 2014 عن رواية للكاتب أحمد مراد بالاسم نفسه صدرت عام 2012.

وقبل سنوات وبالتحديد في الأعوام 2015 و2016 و2018 و2021 تداولت الصحف والمواقع الإخبارية مقاطع فيديو وأخبارًا عن قرى من عدة محافظات يزعم سكانها نشوب حرائق غامضة في منازلهم متهمين الجن والعفاريت بالتسبب فيها، وفي إحدى هذه الحالات، في قرية الترامسة بمحافظة قنا، يستعين الكاتب الصحفي وعضو مجلس الشيوخ مصطفى بكري، بالنائب السابق بمجلس الشعب من محافظة المنيا علاء حسانين، الشهير بنائب الجن والعفاريت، ليحل المشكلة.

ولقب "نائب الجن والعفاريت" يحيلنا إلى نميمة سياسية مفادها أن "حسانين" نجح في الانضمام لعضوية مجلس الشعب في فترة حكم الرئيس الراحل محمد حسني مبارك نتيجة إيمان الرئيس نفسه بقدراته الخارقة وقدرته على السيطرة على الجن، وإخماد الحرائق الغامضة.

لاحقًا وفي العام 2021 ستلقي الشرطة المصرية القبض على "حسانين" بتهمة الإتجار غير المشروع في الآثار، في قضية نالت قدرًا كبيرًا من الاهتمام الإعلامي نتيجة تورط عدة أسماء بارزة أخرى منها رجل الأعمال الشهير حسن راتب.

وتذهب التفسيرات الشعبية للحرائق الغامضة في القرى أنها نتيجة للتنقيب العشوائي عن الآثار والدفائن التي يحرسها الجن، وأن الحرائق بمثابة تحذير أو إعلان غضب يلجأ إليه الجني حارس الكنز ليجبر المنقبين على التوقف.

على أي حال يبقى عالم الجن والماورائيات مادة جذب قوية للحكايات والخيال البشري وعجينة سهلة تقبل التشكل في كل القوالب وقبول كل التفسيرات العلمي منها والشعبي والديني، وتبقى التجربة الذاتية الخاصة بكل شخص فينا هي المعيار الوحيد للحكم على هذا العالم سواء باعتباره خيالات وأوهام صنعها البشر أو حقيقة وواقعًا يمكن رؤيته ومشاهدة تأثيره بوضوح.