الطريق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 10:01 مـ 14 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

السِتّ

 

علاقة ملتبسة!

علاقتى بصوت أم كلثوم ملتبسة، تخطو من الكراهية العميقة إلى العشق، ففى حين احتلَّ عبدالحليم بصوته الشجى مكانة مميزة فى قلبى أيام مراهقتى، كان حب الكبار لصوت أم كلثوم لغزًا يشغل تفكيرى، ولا أبالغ إن قلت إنى كنت أكره ذلك الوقت الذى ينقضى فى إذاعة أغنياتها قبل فقرة العندليب. وحين كبرتُ قليلًا صارت فيروز رفيقة كل قصص الحب التى مررتُ بها، ففى حين بدت لى أم كلثوم فى بدايات شبابى امرأة قوية لا تستسلم لسطوة الحب، كانت فيروز الأقرب إلىّ بضعفها وانكسارها أمام حبيبها فى قُربه وبُعده.

فما الذى تغيَّر؟ ما الذى جعل صوت أم كلثوم فجأة مرادفًا لقصة الحب الأكبر والأجمل والأصدق فى حياتى؟. تبدو الإجابة الأبسط والأقرب إلى المنطق أننى نضجت.. لم أعد تلك الفتاة التى تتماهى مع الحبيب وتؤمن أن «الحبيب حبيب وإن قسا»، بل صارت أم كلثوم بصوتها الذى يرق حينًا ويقسو حينًا مَثَلى فى الحب. لكن الأمر يتجاوزنى ليصبح صوت الست مرادفًا لدىّ لصوت مصر، فحين يُذكَر اسم مصر «ما يجيش فى بالى هرم ما يجيش فى بالى نيل» كما يقول تميم البرغوثى، بل تتدفق إلى قلبى حزمة من الأصوات تبدأ بها وتجذب معها صوت محمد رفعت وعبدالباسط عبدالصمد وغيرهم.

وفى هذه اللحظة التى أكتب فيها، أطفئ الأنوار وأستسلم لصمت الليل الذى لا يقطعه سوى الست وهى تؤكد أن: «بخاف عليك.. وبخاف تنسانى».. نعم.. أخاف عليك كثيرًا، وأخاف أن تنسانى، لكنى لن أخبرك بذلك، لأن عزَّة نفسى «مانعانى».

هبة ظريف

....

يِحلَى لي

لم تكن الأقراص المدمجة قد انتشرت، اعتادت مرافقته للعمل خلال إجازتها الصيفية، أخيرًا ودَّعتْ المراهقة بعدد لا بأس به من جروح حسبَتها لن تندمل، رحلتهما شبه اليومية إلى مدينة صناعية بعيدة كانت الحدث الأبرز طيلة الصيف، شريط وحيد فى كاسيت السيارة يحمل «أمل حياتى» على أحد وجهيه و«فكرونى» على الوجه الآخر، هو رفيق رحلتهما الثالث.

فى العاشرة والنصف مساءً ينظر إليها نظرة تعرفها، لتُنهى مكالمة أو تقاطع اجتماعًا ما متعللة بموعد الدواء، تنهض لتُلملم الأوراق المبعثرة وتنطلق خلفه إلى السيارة، يطفئ الكاسيت ويعلو صوت الراديو المعدّ مسبقًا لاستقبال إذاعة الأغانى، ليعلن المذيع فى تمام الحادية عشرة اسم مرافقتهم الجديدة فى رحلة العودة.

رحل بعد أعوام من تخرجها واندمال خدوش سطحية كانت تظنها جراحًا، تاركًا جرحًا حقيقيًا أكبر يتردّد: «ولما أشوف حد يحبك يحلى لى أجيب سيرتك ويّاه».

آية عادل

.....

لم أستطع العودة!

كانت كلماتها أول شىء نعرف أنه مشتَرك بيننا.. «إنت عمرى - أمل حياتى - ألف ليلة وليلة»، كانت الدَّقة الأولى التى عرفنا بها حقيقة مشاعرنا، وكانت أول ما لجأنا إليه وقت الفراق.

سهرنا كثيرًا ونحن نستمع إليها وكلّ منا يغزل خيوط أحلامه متمنيًا تحققها، لكن كانت هناك خيوط أخرى تُغزل فى الوقت نفسه وعلى ألحان الكلمات ذاتها: «الفراق، البعد، الاشتياق، الألم، الاحتياج» التى كانت -للأسف- أقوى من سواها. ظلّت تغزل نفسها بمرونة وقوة حتى أصبحت لها قوة الحياة ذاتها.

كنت أُغمض عينى فتحضرنى صورتها وكأنها تغنّى لنا وحدنا، لكن عندما حلّ الفراق اصطدمتُ بواقع كنت أرفض رؤيته، وبقيت هناك بصحبته ولم أستطع العودة!.

إيمان عيد

.....

حكاية كل يوم

تركت تجمعنا الصغير قاصدة الحمّام، فالتقينا فى أحد ممرّات المكان، عيناه لؤلؤتان من شدة لمعانهما عندما نظرتا إلىّ، ابتسامة ناصعة تنقصها سنٌ لكنها أسرت قلبى، مدَّ يده ليأخذ قلبى بسلام وثقة، لم يخطر فى بالى حينها سوى صوتها تقول: «قابلنى والأشواق ف عنيه، سلم وخد إيدى ف إيديه»!.

أتمنى لو يعود ليختلق معى الأحاديث كعادته، يهاتفنى فى الثانية صباحًا بعدما يضع لى أغانى الست لتحتضن حديثنا، ويخبرنى عن المرَّات التى كان يسترق فيها النظر إلىّ، المرَّات التى كان ينتظرنى فيها بعد دروس الثانوية العامة، المرَّات التى كان يعبر فيها أمامى دون أن ألاحظه ويُنهى المكالمة بكل حب، ويذهب لكن يظل صوت الست يحتضننى حتى نعيد الكَرَّة مرة أخرى فى الثانية صباح اليوم التالى.

ندا نورالدين

...

أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني

كيف أكتب عنها؟!

قلت لنفسى: فلنحاول. أعددت قهوتى المرّة اللذيذة، عطَّرت غرفتى برائحة العود، ثم جئت بقائمة أغنياتى المفضلة واخترت منها معجزة جرداق «الهوى أنت كلّه والأمانى، فاملأ الكأس بالغرام وهاتِ».

ثومة، يا إكسير النبض والشعور والحياة!. كان ترانزستور جدتى، رحمها الله، يأخذ مكانه بين كتبى وأنا التى -للتو- ودّعت الطفولة، فى المرحلة الإعدادية، إذ تنبّهت حواسى وفهمتك وعشقتك، وانتظرتك يوميًا فى موعدك الثابت، على موجات إذاعتك، وكتبت بين أوراقى: «كان فجرًا باسمًا فى مقلتى، يوم أشرقتَ من الغيب على» و«أنت يا جنة حبى واشتياقى وجنونى، أنت يا قبلة روحى وانطلاقى وشجونى»، و«لو عدت لى رد الزمان إلىّ سالف بهجتى، ونسيت ما لقيت منه فى ليالى وحدتى».

كتبت وكتبت، ومع كل كلمة، يضرب حبك بجذوره فى قلبى أكثر، أنا الفتاة الغريبة فيما أعشق بين أقرانى، تذوقت مع حلاوة صوتك، جمال اللغة وعشقتها، وبحثت فى معانيها، يمضى بى العمر، ويكبر حبك كلّما كبرت، وفتاة الإعدادية التى أصبحت أمًا وجدّة، تنفصل عن الوجود، ويستغرقها صوتك فتعيش مع حديث الروح، وينطلق القلب مناجيًا ربه: «لقد فاضت دموع العشق منى، حديثًا كان علوى النداء.. فحلَّق فى رُبى الأفلاك حتى أهاج العالم الأعلى بكائى».

يا ثومة: كل ما أعددته من طقوس للكتابة عنك، وقف مثلى عاجزًا ولم يسعفنى، فأنت الحب، وسيرة الحب، والحب كله، ومهما مرت السنوات، أنت أكبر وأقوى من أن تكونى فى حياتى «قصة الأمس» أو أن تكونى «الأطلال». دمتِ فى قلبى نبضًا وفى روحى حياةً، مهما «دارت الأيام».

عزة البرقي

....

الستّ

حينما نسمع كلمة الست، نعرف أنها أم كلثوم دون تفكير. أم كلثوم «نبيّة» الفن فى القرن العشرين، إذ استطاعت تحسين صورة الفنان عمومًا والمطربة خصوصًا.

قد يمتعض بعضهم من وصفها بالنبيّة لكنها تستحقه عن جدارة، فالأنبياء يحملون راية التغيير للأفضل، ويقومون بالفعل الصعب وهو تغيير العقيدة، وأم كلثوم استطاعت تغيير ذائقة الجمهور المصرى والعربى، وجعلت الكلمة هى الأساس الذى تبنى عليه مجدها. هى مَن جعلت الفلاح الأمّى الفقير يستمع إلى أصعب القصائد، وينفعل معها ويشعر بالسلطَنة، هى جامعة الملايين حول صوتها ليقولوا «الله»، فذكر الله مقترن بالجمال وهى استطاعت أن تضفى عليه الحياة جمالًا، فنعرف الله كل مرة مع فنها العذب.

أم كلثوم الدليل الفعلى على احترام المجتمع للمرأة وتقديره لها، رغم كل الظاهر على السطح من قبح تجاه المرأة، فإن سُمِّيَت كوكب الشرق فنيًا فلم يجد الشعب تكريمًا لها إلا لفظة «الست» كتجلٍّ لفكرة الأنوثة واحترام ذاتها الفنية.

أم كلثوم تحمل كل أغنية من أغانيها، أغانى صغيرة تستمع إليها منفصلة، لتضعك فى حالة وجد نادرة. قادرة على إمتاع بالغناء العاطفى والدينى والوطنى، بالقصيدة والشعر العامى. يسأل الجميع: ألا توجد أم كلثوم أخرى؟ وأقول «تتشابه النبوة ولا يتشابه الأنبياء».

هند مختار

...

صاحبة العصمة

السؤال الأكثر أهمية بالنسبة لي: ما الذى جعل الست بكل هذا التقدير؟.

الإجابة التقليدية: صوتها الخرافى الذى جمع طبقات النغم كلها، لكن هناك ما هو أكثر، فقصة صعودها أحد عوامل هذا القدر والتقدير؛ من الطفلة الصغيرة فى فرقة الإنشاد إلى صاحبة العصمة ذات المكانة الباهرة، إضافة لتمكّنها من اللغة العربية والنطق السليم، فنحن نحترم تلقائيًا من يُتقن الفصحى، فما بالك بمن يغنى بها!.

العمل الوطنى لأم كلثوم جزء أساسى من سيرتها إذا رويت؛ إذ أقامت حفلات داخل مصر وخارجها وتبرعت بأرباحها للمجهود الحربى بعد النكسة.

ورغم رحيلها منذ 44 عامًا، يزداد مريدوها من الأجيال التى لم تعايشها، من الجمهور الباحث عن صدق الكلمة وحلاوة اللحن وسحر الصوت.

محمود لطفى

...

خلينا بعيد.. بعيد أسلم

«خلينا بعيد، بعيد أسلَم».. دائمًا ما كان يحُيرنى هذا المقطع الصغير وأتساءل: لِم البعدْ إذا كان هناك حبْ؟! كنتُ صغيرة لا أدرك أن الأشياء التى ظننتها بسيطة، تحوى كل هذا الألمْ والتعقيد! لكنى بعد أن أرهقنى النُضج فهمت وأدركت أنه فى البُعد تغدو الحكايات أساطير وتبدو الأشياء أشهى وأجمل، وكذلك الأشخاص!.

وحتى لا أقعُ «ف عذاب الحيرة.. ما بين قربك وشوقى عليك وبين بعدك وخوفى عليك، دليلى احتار، وحيّرنى!».

وحتى لا اضطرُ للهجر، الذى هو «أصعب عليّا منكَ»، «هجرتك يمكن أنسى هواك»، «هجر من خوف هجر، وفراق من خوف فراق»!.

ولِم كل هذا العذاب؟ خلينا بعيد، بعيد أسلم..

وحتى لا نضطر للنسيان، وعندما يتحدث بعضهم عنك فـ«فكّرونى»، فتُعيد لى «قصة الأمس»، بكل ما تحمله من مرارة وشجن، وبعد كل هذا، تأتى كأن «كل ما كان، ما كان»! تطلب العفو «لسه فاكر قلبى يديلك أمان، ولا فاكر كلمة هتعيد اللى كان؟! كان زمان»، و«عايزنا نرجع زى زمان، قول للزمان ارجع يا زمان»!.

وبما أن هذا من رابع المستحيلات! فـ«خلينا بعيد، بعيد أسلم».

آية عبدالعزيز

.....

صوت أم كلثوم له قوانينه الخاصة، يحمله الهواء ليستقر فى الوجدان، يحل القلبّ محل الأذن ويتصدّى للسماع بأنانية المشتاق، حالة لم أجدها لدى أى مطربة أخرى لا فى الشرق ولا الغرب!.

مع كل حرف أعيد اكتشاف ذاتى من جديد، فى وَجْد صوفى ملتهب، تنفتح أمامى رؤى بديعة، طاقات منيرة أطل منها على كون يكتسى بحلة الفن!.

تغنى للحبّ فأصبح أرق من وردة نزل عليها ندى الفجر، تهتف بحياة وجلال الوطن، فيشتعل دمى حماسًا وألتهب فخرًا ببلادى، تناجى الروح الإلهية فأحن للنقاء الدينى، أسمعها فى كل حالاتى فأغدو إنسانًا تخلّى عن همومه وأطماعه وتجرَّد فى محراب هذه النعمة المسبغة علىّ.

حين يختلط صوتها بصرخات الجماهير المعجبة، أسمع صوتًا آخر، صوت مصر فى زمن آخر، بهيًا بفنانين وأدباء عظام، كم تمنيت لو كنت أحيا معه، أتلقاه مباشرة دون وسيط؛ وعذرت المحظوظين الذين كانوا يتلقونه لحظة ميلاده عالمين أنه لن يفنى أبدًا!.

محمود قدري

....

حتى أوشكنا أن نفتح أيادينا انتظارًا للعطاء!

انطلق صوت مولانا بـ«والضحى والليل»، بهدوء فى البداية، ثم بقوة، ثم بتدفق لا متناهٍ، وهو ينشئ المعانى إنشاء، ويمنحها سلطة الوجود ككائنات حية، خرجت لتوها من جوف كل منا، لتعيش حرّة فى كنفه، وتحييه معها، أو تُميته، وبدا كمن انفصل وانفصلنا عن السجادة والمسجد والشارع والتاريخ، ثم راح يُرسى دستور كل شىء من البداية، ويفتح لنا طاقة نور على خزائن رحمة ربه، مكررًا الآيات ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، والمصلون من خلفه مأخوذون لروعة ما يُتلى عليهم!.

بعضهم يتمايل نشوة، وبعضهم يسحّ بالدموع، وبعضهم يرتجف لوعة وشوقًا.

وفى اللحظة نفسها التى هدر مولانا (ولسوف يعطيك ربك فترضى)، وكرَّرها حتى أوشكنا أن نفتح أيادينا انتظارًا للعطاء، اقتحمنا صوتُ الست، من شيش شباك الجامع الموارب، محمولًا على رائحة شاى ثقيل بالنعناع وخبطات قشاط طاولة يبدو صاحبها مأزومًا ويلعب بكل قوته على المشاريب، وتمتمات غامضة لتسابيح وذكر وفناء فى الذات العليّة، وهى تشدو بكامل لوعتها وحيرة قلبها: يا حبيبى كل شىء بقضاء، ما بأيدينا خلقنا تعساء.

جلجل صوت مولانا: (ألم يجدك يتيما فآوى)، وهدرت الست: ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عز اللقاء، وقال مولانا: (ووجدك ضالًا فهدى)، وقالت الست: فإذا أنكر خل خله، وتلاقينا لقاء الغرباء، وقال مولانا: (ووجدك عائلًا فأغنى)، وتابعتْ الست بحرقة، وهي -فيما يبدو- تجود بآخر أنفاس الحب: ومضى كل إلى غايته، لا تقل شئنا، فإن الحظ شاء، إن الحظ شاء.

فيما رقَّ صوت مولانا فجأة، وهدأتْ سريرته - وغاب صوت الست، فى العدم الذى جاء منه، كأن أحدهم أغلق الراديو للأبد، أو ذكّرها أنها ميتة منذ دهر فكفَّت- وهو يوصينا ويوصى نفسه بيقين وسكينة:

فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث.

الله أكبر.