”لمبة” أحمد خالد توفيق
وأنا صغيّرة كانت إسكندرية المصيف بالنسبة لنا، أمي -بسبب مرضها- قليل ما كانت بتسافر معانا، جدتي كانت تاخدني ونسافر نقعد في شقتنا بالمندرة، كنت عيّلة صغيرة، بنزل أمشي ونانا باصة عليا من البلكونة بعد خناقة "لا مش هتنزلي لوحدك" وتصميمي عشان لازم أنزل أشتري حاجة مهمة! الحاجة المهمة كانت عند راجل فارش بكتب كتير أهمها "ما وراء الطبيعة" لـ د.أحمد، ساعتها ماكنتش أعرف مين هو، كل اللي أعرفه إنه كان طريقي لعالم الخيال!
كنت بكل مصروفي بشتري جميع الأجراء اللي بلاقيها، مع وضع مبلغ على جنب عشان أجيب زلابية بالسكر، آكلها وأنا قاعدة بقرأ الحدوتة بشغف شديد، ماشيه في كل حتّة بقراها، يا بنتي انزلي البحر -ما مبعرفش أعوم أصلًا- يا بنتي العبي -لا أنا كده مبسوطة- وأخلّصها في يوم، وأتضايق عشان خلصت، فأقرر أتأنّى في القراءة عشان تفضل معايا وقت أطول!
وأمّا كبرت فهمت أكتر، وفضل الكاتب "الشاطر" بالنسبة لي اللي يقدر "يخطفك" من أول صفحة، وهو كان بيخطفني بكتابته كل مرة كأنها أول مرة! ولما كبرت أكتر بقيت أقرأ له مقالات وكتب، وأندهش من سلاسة كلامه وعمقه -اللي من غير فزلكة- ازّاي بيقدر يعبّر عن الفكرة بأبسط الطرق، أبسط الكلمات اللي تخليك تحس بشعور "إيه يا راجل ده؟ ازاي جبتها كده؟"
عمري ما أنسى المقال اللي ختمه بـ: "استمروا في إهانة مصر والإساءة لها، ثم تساءلوا عن أسباب عدم انتماء الأجيال الشابة للبلد. مصر في حالة سيئة فعلًا فلا تضيفوا الفضيحة إلى الانهيار من فضلكم. نريد بعض الكبرياء أثناء السقوط"، قعدت ساعتها أفكر ازّاي قدر يلخص كل ما يمكن قوله في جملة! "بعض الكبرياء أثناء السقوط"! تظل كلماته باقية، ويظل رفعت إسماعيل ببدلته الكحلية ووجهه الشاحب "عايش" في أحلامنا وخيالاتنا، وأفضل أخاف كل ما أبص للنيل أحسن وحش لوخ نس يطلع لي، ويظل مثال للي كتب وهيعيش حتى تحترق النجوم، ووسط كل الانتقادات اللي من حق أي شخص يوجهها وبعد مرور السنين هتختفي تلك الأصوات، لأن الحَكم الحقيقي على أي عمل فني أو أدبي هو الزمن، وفِي اعتقادي المتواضع، سيظل د.أحمد باعتراف محبيه وقود خيالهم، وبالنسبة لي، هتفضل كلماته "لمبة" لحياة مختلفة، ما وراء الطبيعة، ما وراء الخيال.
ربنا يرحمه بعدد كلماته وبعدد كل شخص قرأ له وأتأثر!