الطريق
جريدة الطريق

عباس بيضون لـ”الطريق”: الغرب أعاد إنتاج خبزنا

عباس بيضون
بشري عبد المؤمن -

النضال كان ذريعة للتكاسل

كل من يكتب يحلم بكتابة رواية

عبدالحكيم قاسم وإبراهيم أصلان أبرز كتّاب الرواية فى مصر

أنا شاعر أولًا وأظن أن كتابة الرواية من قبل شاعر أمر معتاد

لسنا فى عصر الرواية.. نحن فى عصر اللغة

الشعر امتشاق الحقيقة من لب الكلام ونواته

واحد من الرموز المهمة التى حركت مياه قصيدة النثر العربية الراكدة، كتب الشعر وهو فى سن الخامسة عشرة، ونشر أول ديوان له عام 1983م وهو فى الثامنة والثلاثين من عمره، جنوبى حمل معه مدينة صور فى قصيدته. بدأ حياته شاعرًا وانتقل إلى ميدان الرواية لكنه لم يتخل عن شاعريته تلك. صدر له العديد من الدواوين، أبرزها ديوان «الموت يأخذ مقاساتنا» الذى توج بجائزة المتوسط عام 2008م، وديوان «خريف البراءة» الذى توج بجائزة الشيخ زايد للكتاب.. هو الشاعر والروائى اللبنانى عباس بيضون الذى جاء الحوار معه ممتعًا..

*بمناسبة صدور أضخم ترجمات «ألف ليلة وليلة» لسيد إمام.. فهل مازلت ترى أن كتاب «ألف ليلة وليلة» هو أهم الكتب المؤسسة فى الثقافة العربية؟ وما أهم الكتب الأخرى التى أسهمت فى تأسيس الثقافة العربية؟

ألف ليلة وليلة أهم كتبنا بفضل الغرب، لقد بهر بغريبه الغربيين فترجموه واستلهموه، فيما عده العرب عاميًا مبتذلًا وأحلوه فى ما ليس أدبًا ولا ثقافة، لقد ألفه مجهولون اعتمدوا الخيال والعجيب بدل الفصاحة والبلاغة فأسسوا على الهامش ثقافة مضادة وأدبًا مضادًا وتوجهوا به إلى غير الفقهاء والفصحاء، إلى السوق والشارع والعوام والأخيلة الفطرية والشعبية، راجت ألف ليلة وليلة فى ثقافات كانت قد انفصلت عن المقدس وعن الإرث اللاتينى ولم تعد صنمية أو اصطلاحية وبدأ الفرد والفردية يتنفسان فيها ويوسعان للهواجس والتخيلات والعجيب واللامعقول، لم تكن الثورة البرجوازية حدثت عندنا ولا أظنها تحدث على النمط الغربى وبالعواقب التى لحقتها فى الغرب، فقد دخل الغرب منذ عصور فى مساراتنا التاريخية فكان أن لحقناه فى انبهاره بألف ليلة وليلة استرددناها هكذا هى تراثنا، يمكننى فى هذا السياق أن أذكر بابًا كاملًا من صنف ألف ليلة وليلة، منه الملك سيف التى توازى ألف ليلة وليلة، وحرى بنا أن نرجع إلى الصنف كله، كما أن هناك من باب آخر الأغانى.

*حدثنا عن سر علاقتك بكل من هذه الأسماء «المتنبى، المعرى، رامبو، الماغوط، أنسى الحاج، أدونيس، شربل داغر، عباس بيضون»؟

لماذا هذه الأسماء وحدها، لماذا لا نزيد آخرين.. سركون بولص، بسام حجار، السياب، أما أنا فعند نفسى لا أحد.. الجميع أصدقاء وأنا أكتب لأكون أحدا ولو لفترة قصيرة.

*مَن من شعراء وروائيى مصر والعالم العربى ترى أنهم ملهمون ولهم أثر واضح وجلى على الساحة العربية؟

مصر بالطبع هى الحضارة العربية الأولى وقد يكون صعبًا الإحاطة بكتابها من روائيين وشعراء ونقاد، وقد يكون صعبًا متابعة الزمن الأدبى والثقافى فى لحظاته المتحولة، التعداد هنا غير وارد فهو قد يغدو بسهولة أرشيفيًا، الأفضل الاكتفاء بأمثلة، أمثلة خارج اللحظة، يمكننى أن أسمى فى الرواية جيل الستينيات وبالطبع عبدالحكيم قاسم وإبراهيم أصلان وفتحى غانم ومحمد البساطى وخيرى شلبى، أما فى الشعر فهناك حشد من الشعراء يستحيل هنا التعداد، إنما يمكن استطلاع الذاكرة اللاواعية لنقع على أمثلة: عبدالمنعم رمضان، إيمان مرسال، أحمد اليمانى.

*قلت فى أحد حواراتك إن «الرواية هى ديوان العالم المعاصر وليس ديوان العرب فقط» وإن «الشعر فن صامت، فن مكبوت، ولا مرة الشعر يجعلنا نشعر بأن صوتنا خرج كله».. فهل يمكن القول بأن عباس بيضون نادم على كتابة الشعر؟

لست نادمًا على كتابة الشعر، أنا شاعر أولا وأظن أن كتابة الرواية من قبل شاعر أمر معتاد؛ فأشهر الروايات كتبها شعراء، رواية البؤساء مثلا كتبها شاعر، ريلكه كتب رواية وباسترناك نال نوبل عن رواية، أما عن قولى بأن الشعر فن كثيف وصامت فهو مدح للشعر واعتبار له، إنه الكلام الذى يشبه الحقيقة، إنه فن إشارى يتكلم بالإشارات كما أنه عصر اللغة، فليس الشعر منفصلًا عن الرواية، أظن أن كل من يكتب يحلم بكتابة رواية، بل أعجب من أن لا يكون هذا حلمه، فالرواية هى الكتابة بمعنى ما، الشعر هو معادلة الحقيقة بالصمت، إنه امتداح للصمت، بل هو امتشاق الحقيقة من لب الكلام ونواته.

*أجريت حوارًا ممتدًا مع المفكر «حسين مروة» فى الثمانينيات مستحثا ذكرياته وسيرة حياته لكن فجأة انقطعت هذه السيرة فبدا انه حديث غير مكتمل عن مواقفه السياسية دونما تعليق منك.. فما سر هذا الانقطاع وهل كان ذلك عمدا أم لا؟ وهل كان لحساسية المرحلة التى كتبت فيها هذه السيرة سبب فى ذلك؟

حديثى مع حسين مروة كان إثر جلطة داهمته وحالت دون أن يحقق مشروعه الخاص بكتابة سيرته الخاصة التى كان قد اختار لها عنوانًا استعرته لحديثى الذى نشر على أربع حلقات فى جريدة السفير، اطلع حسين مروة على الحديث قبل نشره ولم يضف إليه إلا بضع كلمات، كنت عند نفسى أقوم بدلا عن الشهيد بكتابة سيرته التى حملت اسمه وعنوانه، كان هذا كل ما فى الامر، لقد نشرت السيرة بكاملها ولم أنقص أو اقتطع منها، وهى كانت جميلة جدا وخاصة فى قسمها الأول، جميلة وحرة، الأمر الذى لم يبق على عفويته وانطلاقه فى القسم الثانى الذى تناول العمل الحزبى.

*الحذف للشاعر والحكى للروائى.. كيف يقبض عباس بيضون على لحظة الكتابة؟.. وهل سيطر أحدهما عليك مؤخرا؟

الكتابة تلك التى تتعلق بالرواية أو الشعر إدمان، بكل ما فى الإدمان من شغف مرضى، أمضيت سنوات طويلة بعيدا عن الكتابة بحجة النضال السياسى، لم تكن الحجة كافية، النضال أيضا كان ذريعة للتكاسل، حين تركت السياسة قررت أن أنصرف إلى السياسة، كان هذا قرار حياة بالمعنى الكامل للكلمة، منذ ذلك الحين تأتينى الكتابة فى شكل تململ يأخذنى أياما وأحيانا أشهر ثم أجلس للكتابة فلا أحظى بشىء وأطوى هكذا نهارات طويلة إلى أن أتلقى الجملة الأولى التى تشبه ما فى داخلى وما أنتظره فى غفلة عنه، الرواية تتطلب جهدا أقل، أما الشعر فهو ما يتنزل من الغيب، ومع ذلك يسقط على شىء أتحسسه فى نفسى.

*يعانى بعض المفكرين والمثقفين العرب من أزمات هوية.. فما رؤيتك لصراع الهوية الثقافية بين الانسحاق والمعالجة؟

الهوية هى عقدة علم النفس كما هى عقدة السياسة، وهى مع ذلك قد تكون باطلة، قد تكون حربا وهمية أو خطاب حرب دائم، للهوية أكثر من تعريف ومفهوم، قد تصل إلى العنصرية وقد تكون العنصرية في جذعها، حذار من أن تكون مقدمة للفاشية وللديكتاتورية أو مقدمة للماضوية والسلفيات ورفض الآخر، حذار من أن تكون رجعية مستترة أو نرجسية قومية ولن أطيل فقد تكون ذريعة لثقافة أنطولوجية تصنيم الاصطلاحات.

*هل تمثل الكلمات هاجسا لعباس بيضون داخل هيكلة النصين الشعرى والروائى؟

الكلمات وتحولاتها هى سحرى وهى تقريبا عقيدتى، إنها تقريبا نظير العالم وعقله ومقابله، العالم لا ينى أن يتحول إلى كلمات والكلمات لا تنى أن تتحول داخل العالم وتحوله، وفى النهاية لا شىء سوى الكلمات.

يسأل القراء دوماً عما ينتظرونه من كتابهم المفضلين.. لكنى أسألك الآن: ماذا تنتظر من قارئك المفضل؟

قارئى المفضل تعبير جميل، نكتب وفى مخيلاتنا قارئ لا نعرفه ولا نعرف بالضبط ما يريده لكنه مع ذلك أمر مستبد، نحن لا نعرف تماما من يكتب، أهو القارئ الذى فى داخلنا والذى يثبت ويمحو ويقر ويلغى، أم هو الكاتب الذى يبقى تحت رقابة القارئ الداخلى، القارئ الداخلى هو بأقل اعتبار المؤلف الثانى، الكتابة بهذا المعنى فعل فصامى، إنها تسوية مستمره بين قارئ مثالى وكاتب مجتهد وعادى.