الطريق
جريدة الطريق

نبوية النحاس وكريمة المحلية و أم زغلول.. رائدات الذكر والإنشاد الديني

نبويةالنحاس
-

"المحلية" عبر صوتها إلى العالم العربي عبر ميكروفونات الإذاعات الأهلية المصرية

قصة «نبوية النحاس» عمدة التلاوة والإنشاد الديني في مصر

الحاجة خضرة والست عزيزة والست رتيبة والشيخة أم زغلول.. حكاية نائحات بالمآتم تحولن إلى قارئات

بموت السيدة نبوية النحاس فى عام ۱۹۷۳ انطوت صفحة رائعة من كتاب فن التلاوة والإنشاد الدينى فى العصر الحديث، فقد كانت السيدة نبوية هى آخر سيدة مصرية ترتل القرآن الكريم فى الاحتفالات العامة، وفى المناسبات الدينية، وفى المآتم والأفراح. وكان الاستماع إليها مقصورًا على السيدات، وكان بمسجد الحسين قسم خاص للسيدات يدخلن إليه من باب خاص. وكانت السيدة نبوية هى واحدة من ثلاث سيدات اشتهرن فى نفس الوقت: السيدة كريمة العدلية والسيدة منيرة عبده.. والسيدة نبوية.. أما السيدة كريمة العدلية فهى أشهرن جميعًا.

ظهرت فى عصر الشيخ على محمود والشيخ منصور بدار، ووصل صوتها للعالم العربى كله من خلال الميكروفون أيام الإذاعات الأهلية، وعاشت السيدة كريمة حتى تم تمصير الإذاعة وظلت تذيع القرآن الكريم بصوتها العذب إلى فترة الحرب العالمية الثانية. وكانت هناك قصة حب شديد وعجيب بين كريمة العدلية والشيخ على محمود. كانت تعشق صوته وطريقته الفذة فى الأداء، وكان هو يفضل الاستماع إليها ويفضل صوتها على أصوات بعض القراء، وكثيرًا ما كانت تصلى الفجر فى الحسين فى الركن المخصص للسيدات لكى تتمكن من سماع صوت الشيخ على محمود وهو يرفع أذان الفجر بصوته الذى ليس له مثيل.

ولم يسبق الشيخة كريمة العدلية واحدة من السيدات اللاتى احترفن ترتيل القرآن وإنشاد المدائح النبوية إلا السيدة أم محمد، التى ظهرت فى عصر محمد على، وكان من عادتها إحياء ليالى شهر رمضان الكريم فى حرملك الوالى.

كما كانت تقوم بإحياء ليالى المآتم فى قصور قواد الجيش وكبار رجال الدولة. وكانت موضع إعجاب الباشا محمد على، وحصلت على العديد من الجوائز والهدايا، وأمر محمد على بسفرها إلى إسطنبول لإحياء ليالى شهر رمضان المعظم فى حرملك السلطانة. وماتت الشيخة أم محمد قبل هزيمة محمد على ومرضه، ودفنت فى مقبرة أنشئت خصيصًا لها فى الإمام الشافعى، وجرت مراسم تشييع الجنازة فى احتفال عظیم.

ولكن الشيخة منيرة عبده لم تحقق الشهرة التى وصلت إليها كريمة العدلية، بالرغم من وصول صوتها إلى العالم العربى عبر میکروفونات الإذاعات الأهلية المصرية، وعندما قرأت أول مرة فى عام ۱۹۲۰ كانت فتاة صغيرة فى الثامنة عشرة من عمرها، نحيفة وضعيفة وكفيفة أيضًا، وأحدث ظهورها ضجة كبرى فى العالم العربى، ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت الشيخة منيرة ندًا للمشايخ الكبار، وذاع صيتها خارج مصر، وتهافت عليها جميع إذاعات مصر الأهلية. وفى عام 1925 عرض عليها أحد التجار الأثرياء التوانسة إحياء شهر رمضان فى قصره بصفاقس وبأجر ألف جنيه، وهو مبلغ يساوی بحساب النقد هذه الأيام مائة ألف جنيه.

ولكن الفتاة الصغيرة الكفيفة لم تستطع تحقيق أمنية الرجل الثرى الطيب، فلم يكن من الرجل الطيب إلا الحضور إلى القاهرة وقضاء شهر رمضان فى مصر، وعندما أنشئت الإذاعة الرسمية فى القاهرة، كانت الشيخة منيرة فى طليعة الذين رتلوا القرآن من خلال موجاتها، وكانت تتقاضى خمسة جنيهات، فى الوقت الذى كان يتقاضى فيه الشيخ رفعت عشرة جنيهات، ومع أن الشيخة منيرة عبده كانت على علاقة طيبة بكل القراء، إلا أنها كانت تفضل الشيخ محمد الصيفى على الجميع، وكانت تعتبره شیخ القراء جميعًا.

وقبل الحرب العالمية الأخيرة بقليل أفتى بعض المشايخ الكبار بأن صوت المرأة عورة، وهكذا اختفت الشيخة منيرة من الإذاعة وتوقفت إذاعة لندن وإذاعة باريس عن إذاعة إسطواناتها خوفًا من غضب المشايخ الكبار، وعلى الرغم من تدفق المئات من خطابات الاحتجاج من المستمعين على إبعاد الشيخة منيرة، إلا أن الإذاعة لم تستطع أن تفعل شيئًا، فقد قضى الأمر بعد فتوى المشايخ الكبار، واعتكفت الشيخة منيرة فى آخر أيام حياتها فى بيتها تجتر ذكريات الأيام الجميلة القديمة الحافلة، وعاشت حتى ماتت وهى تمارس هوايتها الوحيدة، وهى الاستماع والاستمتاع بأصوات العمالقة الذين انتقلوا إلى رحمة الله، فقد كانت تحتفظ لهم بمجموعة كبيرة من الإسطوانات التى تحفظ أصواتهم.

وكانت تردد دائمًا أمام الأصدقاء والمترددين عليها: إن الزمن يفقد الأصوات بعض خصائصها الجميلة، ولذلك فهى تفضل الاستماع إلى أصوات المشايخ الكبار عندما كانوا فى فترة الشباب.

والحقيقة أن مصر كانت تضم العشرات من السيدات القارئات غير كريمة العدلية ومنيرة عبده ونبوية النحاس. فقد كانت إلى جانب هؤلاء السيدات الشهيرات الكثيرات من السيدات اللواتى يمارسن هذه المهنة فى أحياء القاهرة الشعبية وفى الريف.

فكانت هناك الحاجة خضرة فى المنوفية، والست عزيزة فى الإسكندرية، والست رتيبة فى المنصورة، والشيخة أم زغلول فى السويس. والغريب أنهن جميعًا كن يحترفن النياحة فى المآتم قبل أن يتحولن إلى قارئات. والنياحة مهنة معروفة فى مصر، ويبدو أنها میراث من قدماء المصريين، الذين كانوا يحتفلون بالميت أربعين يومًا بالتمام والكمال.

وكان للنياحة فى مصر نجوم أشهر من نجوم السينما حتی منتصف القرن الحالى.. وهذه المهنة نفسها «النياحة» كانت معروفة فى الجزيرة العربية أيام الجاهلية وصدر الإسلام، وكان يحترفها ابن سريج فى المدينة، ومعبد فى مكة قبل انتقالهما إلى الطرب والغناء، ولكن أشهرهم جميعًا فى التاريخ المصرى هى الشيخة أم عبدالسلام. وقد ظهرت فى العصر المملوكى، ثم تزوجت من شيخ مجذوب كان يحترف مهنة كتابة الأحجبة.. وبعد أن استولى على ثروتها، هرب منها، ورفعت الأمر إلى المملوك الوالى، ولكنها اكتشفت أنه كان على علاقة بالوالى المملوك.