الطريق
جريدة الطريق

يوم لا ينسى في مكتب وزير الداخلية

محمد عبدالجليل
-

كانت الأحداث دامية، والأجواء مشتعلة بميدان التحرير، والأمور خارجة عن السيطرة الأمنية تماما، كان الموت يحيط بكل مكان ورائحته تعبِّق سماء القاهرة وتشتد، حتى تزكم الأنوف كلما اقتربنا من خط النار، اصوات طلقات الرصاص لا تهدأ عن الصراخ ولا يعرف مصدرها بالضبط، ضرب النيران كان في المليان، في الصدور والرؤوس يفتك بكل شيء، الكل يجري يمينا وشمالا في أي اتجاه، لا أحد يعلم أين يذهب ولا أحد يعلم من يحارب من، فيما ارتسمت ملامح الخوف والفزع على وجوه الكثير من المواطنين البسطاء الذين شعروا أن يدا تدك بكل قوتها حصون أمنهم وتعبث بمستقبل أولادهم، لإسقاط بلدهم وتخريبها.

 

محاولة اقتحام الداخلية

 

فئة واحدة فقط، ومجموعة محددة، هي من كانت تعلم ماذا تريد وتدرك كيف تخطط لتنفيذ أجندتها، وكان مخططها واضحا يعتمد على افتعال الأحداث وتصعيدها، حتى يقع العديد من الشباب قتلى في الميدان، ثم المتاجرة بذلك واستغلاله في قنواتهم الإرهابية، لترويج الصورة وكأنها شعب أمام دولته.

كان التكتيك الذي اتبعته هذه المجموعات هو ضرب أقوى الأجهزة وأشد المؤسسات رسوخا وانضباطا، إذ إن انهيارها يعني انهيار الدولة كلها، فقد علموا "وكان الاتجاه إلى وزارة الداخلية حاملين جميع أنواع الأسلحة النارية التي حصلوا عليها عن طريق تهريبها عبر الحدود بعد ساعات قليلة من هروب قياداتهم من السجون، وحاولوا اقتحام الوزارة باعتبارها المؤسسة الوحيدة التي مازالت عصية على الانهيار.. كان الهدف واضحا وصريحا، إذا سقطت الداخلية، انهارت البلد وفقدت درعها الحديدي الذي جعلته على مدار عقود طويلة رادعا لكل من تسول له نفسه التآمر على هذه البلد.

 

الدخول للوزارة من الباب الخلفى مع أحمد عبدالله

 

كنت في هذه اللحظة تحديدا في ميدان التحرير، متوجها إلى إلى وزارة الداخلية، بحكم عملي مندوبا للوزارة أتولى تغطية أخبارها، إلا أن هذه الأيام التي بدأت في 25 يناير من عام 2011 واستمرت لعدة أعوام عرفت بسنوات الفوضى والانفلات الاخلاقي، كانت استثنائية وتركت صدى في ذاكرتي لا أظنني سأنساها طالما حييت.

تقابلت مع صديقي العزيز أحمد عبد الله، مندوب وكالة الشرق الأوسط بالداخلية، واتفقنا على دخول الوزارة من الباب الخلفي، وبالفعل نجحنا في الدخول بعد معاناة شديدة وتحت غطاء من قنابل الدخان والغاز وأصوات طلقات النيران التي دوت في أرجاء العاصمة كلها، وتمكنا من الصعود إلى مركز الإعلام الأمني الذي لم يكن يفصله عن مكتب الوزير سوى دور واحد فقط.

انتهزت الفرصة ووجدتني أصعد درجات السلم إلى الدور الأعلى حيث يقع مكتب الوزير، علَّني أجد ما يطمئن قلبي ويدفع عني الخوف ، إلا أنني علمت بعدم وجوده وكان حاضرا اجتماعا مع القيادة السياسية بالبلاد، لبحث تطورات الموقف، ووجدت مساعديه مستغرقين بانهماك شديد في عملهم..

 

رجال المركز الاعلامي الأمني

 

جلست أراقب في صمت، ماذا يدور بالمركز الاعلامي الأمني.

هناك كانت الصورة مختلفة تماما عما نراه في الخارج، لا وقت للفوضى أو الخوف، الكل يعمل كخلية نحل في أوج نشاطها، وجدنا رجالا أشداء لا يخافون الموت ولا يهابون الخطر الذي يحدق بهم على بعد أمتار قليلة منهم، رجالا لم يذهبوا إلى منازلهم منذ أن وقعت أحداث 25 يناير، أخذوا على عاتقهم وأقسموا وتعهدوا أن يكشفوا ما يبث من سموم الجماعات الإرهابية عبر قنواتهم الممولة، ويكشف عن كذبهم أمام الرأي العام في الداخل، والمجتمع الدولي في الخارج.

كنت كلما دخلت على مكتب أحد الضباط، أجده متابعا للأحداث، يحلل ويفنِّد ويستنتج، لا يرتجف له قلب أمام نيران المدافع التي تدوي بالخارج في جنون، ولا تهتز له شعرة من أصوات القنابل التي تهز مبنى الوزارة، إلى الدرجة التي جعلت زجاج شرفاته يتطاير من شدة الانفجارات، في الوقت ذاته رنَّ جرس التليفون المكتبي لأحد الضباط من ذوي الرتب الكبيرة، بسبب انقطاع الشبكة عن التليفونات المحمولة، رد على الفور، جاءه صوت ابنه من الطرف الآخر ملتاعا من الفزع يخبره بأنه يطمئن عليه ، بعد أن سمع وشاهد على شاشات التليفزيون وقائع محاولة اقتحام الداخلية، وكان رد هذا الضابط حاسما، طمئن ابنه في عبارات مقتضبة بأن الوضع تحت السيطرة، وطلب منه الهدوء وعدم الخوف، وكانت الاتصالات تنهال على الضباط للاطمئنان وكان كلامهم بما يشبه "الشفرة" بينهم: مش ممكن نسيب المكان حتى لو كان التمن حياتهم!

 

رائحة البارود تملأ المكان

 

لا أخفي عليكم سرا أن الوضع كان مقلقا جدا بالنسبة لي، فالقنابل تدوي برعب، والنيران تتصاعد، والرصاص يتطاير في كل مكان، ورائحة البارود تملأ المكان، والدخان الكثيف يغطي كل شيئ، والموت ينتظر، ولا أحد يعلم هل هناك أمل في الخروج من هذه النكبة أم لا، وما ثمن ذلك، ومتى يحدث، وبينما كانت هذه الأسئلة تدور في رأسي، كانت هناك ملحمة وطنية وعقيدة راسخة تبدو في سلوك كل من كان في الوزارة من قوات أمن، أو رجال العمليات الخاصة، الذين حملوا على عاتقهم مسئولية الدفاع عن الكيان وليس المبنى، كيان هذه البلد كلها.

واستمر هذا الوضع لقرابة 9 ساعات، كان كل فرد فيها يؤدي واجبه على أكمل وجه وأتمه، وكان ضباط المركز الإعلامي يعملون بنفس الروح والإقدام والتحدي والصمود.

 

الاحتفال باليوبيل الفضي

 

هذا المركز الذي يحتفل باليوبيل الفضي بمناسبة مرور 25 عاما على إنشائه، والذي يمثل حلقة الوصل بين وزارة الداخلية ووسائل الإعلام والصحف والصحفيين، والذي أخد على عاتقه إبراز جهود الوزارة، ورصد كل كبيرة وصغيرة لما يحدث على مواقع السوشيال ميديا.والتحقيق فيها والتوصل إلى حقيقتها وتوضيحها إلى المواطنين بمنتهى الشفافية والسرعة، بالإضافة إلى جهوده الكبيرة في مواجهة الشائعات التى حاولت جماعات الإرهاب، الممولة من قطر وتركيا.

 

مع أذان الفجر خرجت من الوزارة

 

عندما خرجت من الوزارة مع الساعات الأولى لفجر يوم جديد، كان المصابون من العساكر والضباط والأمناء يصطفون على أسوار الداخلية في شجاعة واستبسال، وعلى الرغم من أن ساعات الخطر لم تكن قد انتهت بعد، إلا أن وجوههم ظلت مستبشرة بيقين ورضا يعرفه كل رجل فيهم أدى واجبه واسترخص روحه في سبيل بلده، سرت في الطريق المؤدي إلى شارع محمد محمود وأنا في غاية الدهشة الممزوجة بالاطمئنان بأن ما زال لدينا مثل هذه العملة نادرة الوجود، التي صنعت في مصر، وتربت في مدرسة الشرف والرجولة من فرع العسكرية المصرية.