الطريق
جريدة الطريق

أنا الآخر.. عندما يتحول العلم إلى هلاك للإنسانية

إيمان صبري خفاجة
-

«سعيد جدا لأنني أصبحت أهلا لثقتك، لقت حلمت بهذا اليوم كثيرا»، بالفعل حلم واحد كان يراود خيال «شافي» منذ أن بدأ دراسة هندسة الجينات الوراثية؛ أن يكمل ما بدأه والده من أبحاث، ولم يتخيل للحظة أن يتحول حلمه إلى كابوس لا ينتهي.

تلقي الصدفة في طريق «شافي» بطل أحداث رواية «أنا الآخر» للكاتبة اللبنانية «سونيا بوماد»، بمذكرات ضمت تجارب والده العلمية التي ظلت طي الكتمان لسنوات طويلة، وسرعان ما تتحول تلك المذكرات إلى مفاجآت مدوية تكشف حقائق مؤلمة كان أولها حقيقة الأب.

البروفيسور «كميل سالم»، عالم أجرى العديد من التجارب العلمية ليؤكد تميزه في مجال الاستنساخ البشري بشكل خاص، تلك التجارب تكشف حقيقتها الأحداث؛ فما هي إلا جرائم ارتكبها في حق الإنسانية، فقد ظن هذا العالم أنه يملك القدرة على أن يخلق من البشر بدائل، السليم منهم يحتفظ به ومن يصيبه خلل يعدمه بدم بارد دون أن يشعر به أحد.

جاءت الكاتبة بهذا العالم رمزا لهؤلاء الذين تجردوا من كل معاني الإنسانية في سبيل إحياء العلم بصورته المادية فقط، هؤلاء الذين سخروا خبرتهم العلمية لخدمة أهوائهم، بالإضافة إلى أنه يمثل صورة للعلم حين يخضع للحسابات الشخصية فيتحول من أداة لخدمة الإنسانية وطوق نجاتها الوحيد إلى طريق هلاكها الأكيد.

لم تكن تجارب الاستنساخ التي تحدثت عنها مذكرات «كميل سالم»، دليل قاطع على جرائمه فقط، بل كانت نقطة الانطلاق للتعرف على ضحاياه؛ أبطال الرواية.

«نعمة»الابن الحقيقي للبروفيسور، اكتشف بعد مولده وموت الأم أنه طفل يحمل سمات التوحد فقرر أن يلقي به أمام أحد المعاهد التي تهتم بمرضى التوحد بعد أن استنسخ منه خلية أخرى عكف على أن تصبح بلا عيوب، فكان شافي الذي عاش حياته بنصف ذاكرة، لا يتذكر شيء عن الماضي، يعيش بذاكرة الحاضر فقط دون تاريخ!

بالتعرف على حقيقة انتماء شافي ونعمة ندرك أننا أمام وجهين لعملة واحدة.. العملة هي الحياة والوجهان هما: نعمة مريض التوحد الذي عبرت من خلاله الكاتبة عن الفطرة الإنسانية السليمة التي لا تعرف ضغائن أو أحقاد، وإذا ما تعرضت للتنمر والاضطهاد لا تستطيع الصمود فتختار العزلة، كما أشارت الكاتبة من خلاله إلى معاناة مرضى التوحد حول العالم من تنمر وكيف يواجهون هذا المصير ولا يجدون قوانين تحمي حقوقهم ، وتضع أمامنا حقيقة أننا مرضى حقيقيين حين لا نتقبل الآخر ونتهمه بالنقص.

الوجه الثاني، شافي، يمثل الصورة السوية للطبيعة البشرية تصدمه الحقائق ولا تكسره بل تشجعه على البحث ومعرفة الحقيقة، وبالفعل لم يهزم شافي أمام تلك الحقائق، بل عكف على معرفة حقيقة انتمائه؛ فعملية استنساخه لا يمكن أن تنجح دون وجود رحم تزرع بداخله تلك الخلية لتكمل نموها الطبيعي وتخرج للحياة.

فكانت «مادلين» ، الضحية الثالثة .. فتاة فقيرة عثر عليها البروفيسور سالم تعمل في أحد الملاهي الليلية ، عرض عليها فكرة أن يحتضن رحمها الخلية المستنسخة مقابل مبلغ من المال شرط أن تترك الطفل والبلاد وترحل إلى الأبد ، توافق بالفعل ولكنها تتركه وتتنازل عن المقابل المادي ، لتعبر من خلالها الكاتبة عن الفقر والعوز الذي تستغله مافيا العلم، وأن فطرة الأمومة لا يمكن أن يبتاعها أحد بالمال فهي حق يسلب عنوة.


بالوصول إلى هذا الجزء يغلب على أحداث الرواية الجانب العلمي الذي وقفت أمامه الكاتبة في أكثر من موقف بالشرح الدقيق؛ كحتمية أن تفقد الخلية المستنسخة للإنسان ذاكرة الماضي، فهذا الأمر يعد أحد أهم قوانين تلك العملية وثمن باهظ يدفعه الإنسان دون إرادة منه، كما يأخذنا هذا الجزء إلى عدد من النقاط التي حتما سوف يقف أمامها القارئ ليفتح العديد من علامات الاستفهام.

من أهم هذه النقاط؛ أن الكاتبة لم تشر في هوامش الرواية إلى المصادر التي استقت منها المعلومات التي استندت إليها فيما يخص الأحداث العلمية وكانت بطل من أبطال الرواية الحاضرين بقوة، أعلم أن محركات البحث متاحة لمعرفة تلك المعلومات ، ولكن الاهتمام بالمصادر يعطي مصداقية أكبر للعمل الروائي، وأن هناك جهد بحثي يضيف للقارئ ويساعده في البحث، وتلك هي النقطة الأولى.

النقطة الثانية، أسلوب السرد والحوار بين أبطال الرواية الذي يعد سلاحا ذو حدين؛ فلغة الحوار حادة ومليئة بالجدية الخالية من الكنايات أو الإسقاطات الأدبية؛ وهذا الأسلوب يتناسب تمامًا مع موضوع الرواية؛ فالحديث عن الحقائق العلمية يصحبه حوارًا جادًا خاليًا من الخيال، لكن القارئ قد يرى في هذا الأسلوب شكلا من أشكال الرتابة التي تخللت بعض نقاط السرد.

استطاعت الكاتبة أن تتغلب على حدة وجدية الحوار الروائي باستخدام أسلوب تعدد الرواة في السرد؛ بمعنى أن كل فصل يرويه بطل من أبطال الرواية، الأمر الذي يثير فضول القارئ لآخر كلمات الرواية ويحافظ على عنصر التشويق.

أهم ما يميز هذا العمل الروائي أيضا أن الكاتبة لم تبالغ في النهايات؛ فيستطيع القارئ أن يتنبأ ببعض الأحداث بمنتهى البساطة مما يساعده على أن يضع نفسه مكان الأبطال ويعايش أجواء الرواية فيزيدها مصداقية.

كما خرجت الكاتبة بالرواية من الفكرة المعتادة لبعض الروايات العلمية التي تقتصر على الحرب بين الموت والحياة؛ فالهدف هنا يكمن في تسليط الضوء على السعي المحموم للإنسان إلى الكمال الذي أكدته من خلال الأبطال أنه أمر مستحيل من ناحية الشكل والقدرات؛ فالكمال الحقيقي يكمن في الروح وفي تقبل كل منا للآخر بطرق مختلفة اختصرتها الكاتبة في الكلمات التالية: «إن قبول الآخر واحترامه إحساس يجب أن ينمى داخل المجتمع وأفراده بآلاف الطرق، ننميه من خلال تفعيل المشاركة والتسامح والمحبة، من خلال الموسيقى، والأدب، والشعر، والرسم، تلك الفنون التي هي روح الحياة والتي تلهب عواطف البشر أكثر من العنف والشر المضاد».

تنتهي أحداث الرواية بمواجهة حادة بين البروفيسور سالم وشافي أدت إلى نهاية مستحقة لمجرم في ثوب عالم ونهاية مأساوية ل شافي ولكن في مجملها انتصار للإنسانية؛ استطاع «نعمة» أن يتعايش ويستأنف حياته فالبقاء كان للفطرة السليمة طوق نجاة الإنسانية الوحيد الذي يكمن في أن يدرك كل منا أن الآخر ما هو إلا صورة أخرى منه، وحدها ظروف الحياة التى تخلق الاختلاف.