الطريق
جريدة الطريق

المحجوبات

إيمان صبري خفاجة
-

حين يتم تحويل نص أدبي إلى عمل فني، يقفز إلى أذهان الكثير من القراء سؤال متكرر، هل هناك جدوى من قراءة النص الأصلي أم يمكننا أن نكتفي بما شاهدناه؟!

يزداد هذا السؤال إلحاحا حين يتطرق العمل إلى جانب علمي وأكاديمي، لصعوبة المحتوى لدى بعض القراء غير المتخصصين، يدورهذا السؤال والعديد من علامات الاستفهام حول كتاب «المحجوبات»، للكاتبة «مارجوت لي شيترلي»، الصادر في طبعته العربية الأولى عن دار تنمية، ترجمة «أحمد شافعي».

في عام 2016 تحول الكتاب إلى فيلم سينمائي حاز العديد من الجوائز، بالإضافة إلى أن جزء من أحداثه يدور بين أروقة وكالة ناسا في الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب العالمية الثانية، حين كانت تعرف بمؤسسة لانجلي.

جاء النص الكامل لكتاب المحجوبات مخالفا لأجزاء متعددة من الصورة النمطية التي روجت عنه حين تحول إلى عمل سينمائي، حيث حرصت الكاتبة على سرد الأحداث بأسلوب روائي يشعر به القارئ من الصفحات الأولى التي تبدأ بمقدمة في صورة حكاية توضح من أين لها بفكرة الكتاب؟ كيف استطاعت أن تتجول بين أروقة تلك المؤسسة العريقة، وتعايش يوميات موظفيها لتخرج بعشرات الحكايات التي ظل الغموض يغلفها لسنوات طويلة؟!

كانت جولتها الترفيهية بصحبة والدها الذي بلغ سن التقاعد بعد العمل في لانجلي، فرصة أهدتها فكرة هذا الكتاب الذي أحدث ضجة أجبرت السلطات الأمريكية على أن تطلق أسماء البعض من أبطال هذا العمل على أحد الشوارع المقابلة لهذه المؤسسة العالمية!

تبدأ الأحداث بحالة من الارتباك تنتاب مديري تلك المؤسسة التي تعاني في ظروف عالمية صعبة، نقص في عدد العاملين بمجال علوم الرياضيات، لينتهى بهم الأمر إلى الإعلان بين صفحات الجرائد عن حاجتهم إلى مجموعة من السيدات يعملن في مجال المسائل الحسابية بتفوق كان شرطهم الوحيد الذي جعلهم يغضون الطرف عن أي اعتبارات اجتماعية وعرقية كانت تسود العالم في تلك الفترة.

بالوصول إلى هذا الجزء تقف الكاتبة طويلا أمام أولى الحقائق التي يتضمنها الكتاب؛ فلم يقتصر الاضطهاد على صاحبات البشرة السمراء، بل تجاوز الحدود ليشمل حقوق المرأة بصفة عامة، فتلك ثقافة كانت مسيطرة على بعض المجتمعات والشعوب، وبطبيعة الحال تتجلى الممارسات العنصرية وضوحا حين تمارس على الأقليات!

كان هذا الاضطهاد بوابة عبور الكاتبة إلى حقيقة أخرى مفادها، أن التمييز العنصري وفقا للأنواع والأعراق ولون البشرة أخطر على العالم من الحروب، فتلك المعتقدات الراسخة في العقول قد يعجز أمامها العلم مهما بلغ من تقدم وما كان يحدث داخل مؤسسة لانجلي خير دليل على ذلك!

وما يزيد من تأصل تلك الأفكار وصعوبتها؛ أن تمارس تلك التفرقة داخل النوع الواحد، كما حدث تماما مع الكثير من الأبطال، حين كان هدف الكثيرين ممن درسوا الحساب والهندسة من أصحاب البشرة السمراء، الوصول إلى مستوى اجتماعي أعلى يحقق لهم كثير من التمييز فيما بينهم، والأولوية حين تأتي السماء بمعجزة أو فرصة كإعلان لانجلي الشهير والغريب في آن واحد!

فقد دعت المؤسسة إلى حاجتها للعمل بأسلوب أشعل ثورة المرأة على وضعها التقليدي في المجتمع، إعلان حرصت الكاتبة على الاستشهاد بنصه كاملا داخل الكتاب، ليكون نقطة انطلاقها إلى رصد الدورالمجتمعي الخطير الذي لعبته لانجلي، بالإضافة إلى دورها العلمي الذي يشهده العالم حتى الآن.

ثم تعود الكاتبة سنوات إلى الخلف، ترصد الخلفية الاجتماعية لمن تقدمن للعمل، فمنهم من أقبل على أعمال متواضعة في الفنادق، في مستويات مادية ومعنوية لا تليق بخلفيتهم العلمية، لكن تلك الأعمال كانت أفضل ما يمكنهم الحصول عليه في تلك الفترة، حتى جاءتهم فرصة الالتحاق بفريق لانجلي.

لكن الحياة بين أروقة المؤسسة لم تكن سلسة، فكان عليهم التعايش مع نظرات التنمر والازدراء يوميا، ورغم محاولاتهم البسيطة في الثورة على تلك الأوضاع التي تزامنت مع مظاهرات عالمية للمطالبة بحقوق أصحاب البشرة السمراء المجتمعية والوطنية، كانت المؤسسة تصم أذنيها عن ذلك، فلا يعنيها شىء سوى ما تحققه من نتائج تصب في مصلحة الحرب.

فلم تكن الحرب خلفية تاريخية للحكايات كما يعتقد البعض، بل كانت هي المحرك الحقيقي للأحداث حيث كانت الحركة العلمية تسعى لتحقيق أقصى تطور في المجال الجوي للسيطرة على مصير الحرب وهو ما حدث بالفعل.

كما يتضح هذا الأمر جليا من سعي السلطات السياسية إلى إقناع القائمين على تلك المؤسسات العلمية، بأنهم يؤدون عمل جليل للإنسانية يعجل بنهاية الحرب، لكن هذه الحجة لم تكن سوى التفاف حول الحقيقة التي تهدف إلى تطوير الحركة العلمية والتحكم بالتبعية في المناخ السياسي العالمي.

لكن في نهاية الأمر سيطرت الفكرة على العقل الجمعي للشعب في تلك الفترة، فوصل الأمر إلى تنظيم حلقات علمية، تكسب الأطفال مهارة توظيف المسائل الحسابية في التقليل من النفقات المنزلية لمواجهة العوز والفقر الذي يهاجم العائلات كنتيجة طبيعية للحرب، فترصد الكاتبة من خلال تلك الصورة التاريخية، كيف تشكلت السياسة العالمية وتكونت ثقافة الشعوب في تلك الفترة، التي ما زلنا نعيش نتيجة أحداثها حتى الآن.

لم تقتصر أدوار البطولة في الحكايات على المرأة، فقد جاءت الكاتبة بعشرات الحكايات حتى عن الذين وقفوا في كواليس الأحداث الاجتماعية والعلمية من الرجال والنساء، فكان لهم نصيبا من التوثيق عن تلك الحقبة التي انتهت بهم إلى سطح القمر.

بالوصول إلى هذا الجزء، حتما سوف يتساءل القارئ عن الجانب العلمي لتلك المؤسسة ولهذه المجهودات الواسعة، خاصة وأن الكتاب لا يصنف رواية، تكمن الإجابة في أن الكاتبة كانت معنية أكثر بالجانب الإنساني الذي لا يجد له مستقر سوى أحضان الكتب، أما عن المعادلات والمسائل الحسابية، فهناك محركات البحث، لكنها بالرغم من ذلك جاءت بهذا الجانب الأكاديمي مضفر في الحكايات، تبرزه في هوامش الصفحات حين تشير إلى معنى مصطلح ما أو تكتب المزيد عن أحد العلماء والشخصيات التاريخية.

كما تشير تلك الهوامش إلى دور الترجمة التي جاءت بأدق المفردات والمعاني للكلمات، بالإضافة إلى الدور الذي يتجلى واضحا في الجزء الخاص بالمراجع والمصادر الملحقة بنص الكتاب، التي اعتمدت عليها الكاتبة للخروج بكتاب يعد وثيقة كاملة عن مرحلة هامة تاريخيا وعلميا.

بنهاية صفحات الكتاب سوف يبحث القارئ عن المزيد من المعلومات حول شخص الكاتبة وقراءة تصريحاتها عن هذا الكتاب، خاصة حين يعلم أنها تجربتها الأولى في الكتابة، وهو أمر لم تغفله الكاتبة، فقد جاءت بخاتمة تتبع خلالها مصائر شخصيات الكتاب حتى وقتنا الحالي، بالإضافة إلى حديث مطول عن صعوبات الطريق إلى هذا الكتاب، وما اكتسبته من تتبع حكايات المحجوبات في قولها:« في هذه القصة ما يجد صدى لدى الناس من جميع الأعراق والأجناس والأعمار والخلفيات؛ فهي قصة أمل في أنه في أحلك الظروف يبقى دليل على انتصار الكفاءة، وعلى أن لكل منا الحق في أن يتاح له الصعود إلى أرفع ما تتيح له موهبته وجده في عمله».