الطريق
جريدة الطريق

عيونٌ تُراقب في صمت.. وآذانٌ تسمع في صبر

محمد عبد الهادي -

ربّما تعجّبتُ، كيف تأتّى لسكورسيزي، المُمتلئ بالذكورة الفجّة، وحرب العصابات، والسعي نحو الخلاص، إخراج "عصر البراءة"، مُجتذبًا الروح الأمريكيّة السبعينيّة، من رواية إديث وارتون (التي ترشّحت لنوبل مرّاتٍ ثلاث)، حتّى اكتشفتُ، بالصدفة، جلسة الشاي الخريفيّة، التي جمعت مارتن بالناقد السينمائي روچير إيبرت، والتي ذكر فيها الأخير وجهة نظر المخرج العظيم (مخرج سائق التاكسي، كازينو، وعصابات نيويورك كمثال) في وجود الشغف والعنف، بشكلٍ ما، حتى في الأماكن التي تحكمها اللياقة المجتمعيّة، قال سكورسيزي (على حدّ تعبير إيبرت): "ما عَلِق في رأسي، حال قراءة الرواية، الوحشيّة التي تَستبطنها الأخلاق؛ يُخفي الناس ما يقصدونه، تحت سطح اللغة".

أحبّ آرشر امرأة، وتزوّج أخرى، لأنّه تصوّر، بإيعازٍ من نفسه، ربما، وتأكيدٍ ممّن حوله، أنْ هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله؛ لقد وقع آرشر في فخٍّ مجتمعيٍّ، يحيل الحياة إلى رموزٍ تعسّفيّةٍ، حيث الحقائق أبعد مِن أنْ تُقال، أو تُفعل، أو حتى يتمّ التفكير فيها؛ وربما هذا قريبٌ من عالم المافيا، التي تمتلئ بها أفلام سكورسيزي!

كان نولاند آرشر يخطّط للزواج من العذراء المحترمة ماي، حين ظهرت الكونتيسّة إيلين، قريبتها التي عادت هاربة من نيو يورك، بعد زواجٍ متهوّرٍ، من كونتٍ بولنديٍّ، أساء معاملتها وسطا على ثروتها، لنجدها في شرفة الأوبرا الخاصّة بعائلة ماي. وأمام صدمة المجتمع المحافظ، تقف عائلة ماي جوار قريبتهم، بينما لا يشعرون بالإعجاب الذي وُلد في نفس نولاند بمجرد وقوع نظّاراته الأوبراليّة عليها، في مشهدٍ تحركّت فيه كاميرا سكورسيزي بشكلٍ تقنيٍّ عظيم، يُقال إنّه استغرق عامًا كاملًا.

لقد تسرّع آرشر في إعلان خطبته من ماي، مستشعرًا خطر انجذابه نحو إلين، لكنّه لم يقو على الشغف ناحيتها: الجرأة الجسديّة لم تكن السبب الوحيد؛ العقليّة المتفتّحة لإلين، وذوقها المختلف، الذي اكتسبته من رحلاتها الأوروبيّة، ومخالطة الكتّاب والفنّانين، ترك أثره في نفس نولاند، الذي يبدو انعزاليًّا، في مكتبته بنيويورك، حيث كتبه ولوحاته، وشغفه الذي لا يجد من يُشاركه إيّاه، رغم وظيفته المحترمة في مكتب محاماة، يشعر فيه بالملل، إلّا خلال عزلته الاختياريّة في المكتبة، والآن، في حديثه مع الكونتيسّة، التي تبدو منجذبةً نحوه بداعٍ قريبٍ من أسبابه؛ في مجتمعٍ تُديره العادات، ويمتلئ بالأحكام المُسبقة، والهمسات الخبيثة، يبدو نولاند الرجل الوحيد، الذي يمكن أنْ تقع في غرامه: "الانصياع الأعمى للتقاليد، لا داعي له تمامًا!" هكذا ذَكَرَت له، قبل أنْ تهمس له، لاحقًا: "ألا يريد أحدٌ، هنا، معرفة الحقيقة؟! الوحدة الحقيقيّة، هي العيش وسط هؤلاء الطيّبين، مَن يطلبون منك التظاهر، فقط!".

على خطى هنري چايمس، نادرًا ما تسمح إديث وارتون لشخصيّاتها بالبوح بأفكارهم، صراحةً؛ يتحدثون حولها، خوفًا مِن المُمانعة المجتمعيّة؛ لكن ماي، التي تزوّجت آرشر، وفي لحظة مكاشفةٍ استثنائيّة، تُصرّح برؤيتها للحياة، قبل أن تتراجع نحو شخصيٌتها الساذجة، تاركة سؤالًا وجوديًّا يُحلّق في دماغ زوجها: كيف يُمكن لشعورٍ عميقٍ أنٔ يتعايش مع غياب الخيال؟ لقد أظهر سكورسيزي مجتمعًا مخمليًّا، داخل حجراته الڤيكتوريّة، المُزدانة بالذهب والعاج، جوار الوسائد الريشيّة، وحولها لوحاتٌ وشمعداناتٌ وتماثيل، مستخدمًا بقعًا ساطعة، في تهميش الإنارة على ما حولها؛ حين تسليط الضوء على مشاعرٍ في بحرٍ من الملل، والصمت، الذي فضحه المخرج الكبير بتقنية الراوي العليم منذ بداية الفيلم.

لقد قرّر آرشر اتخاذ خطوته بالانفصال عن ماي، الخالية من عيوبٍ مجتمعيّةٍ، باعتياديّةٍ، ستكشف النهاية خداعها، وتُظهر عمق الشخصيّة المتواري خلف فخّ الأقنعة؛ سيقبل آرشر عواقب فعلته بالهروب مع الكونتيسّة، في سبيل حياةٍ يرجوها، قبل أن يحدث الانقلاب الهائل في رواية وارتون. يتغيّر مزاج إلين، ربما لا تجد ملاذًا أخيرًا في تعلّق نولاند بها كطوق نجاةٍ، يحقّق حريّته من خلاله، ربما في سبيل إنقاذ ماء وجهها أمام قريبتها، التي فاجأت زوجها بحملها؛ ذكاء نولاند، أيضًا، قدّم له ما يُمكن فعله، بصفته نبيلًا، أصبح مصيره محتومًا، لينتهي الفيلم بشعور الفقد، والحزن، وكثيرٍ من الاستسلام، على مقعدٍ في حديقةٍ باريسيّة؛ يقول فيه سكورسيزي إنّ الحبّ أكثر تعقيدًا ممّا نتخيّل، ويكشف فيه عمق شخصيّاته، التي تبدو ساذجة، حين يخبر تيد، ابن آرشر، كيف أخبرته أمّه إمكانيّة الوثوق في والده، لأنّه "حين طلبت منك ذلك، تخلّيت عن الشيء الذي كنت تتوق إليه، أكثر من أيّ شيءٍ آخر"، وقع المفاجأة على آرشر، في خريف عمره: "لكنها لم تطلب مني!" إنها لم تفعل؛ ربما لم تكن في حاجةٍ، قطّ، إلى ذلك؛ لقد كانت هناك عيونٌ تراقب في صمتٍ، وآذانٌ تسمع، في صبر!

حصول وينونا رايدر على جولدن جلوب أفضل ممثلة مساعدة، عن فيلم سكورسيزي، في دور ماي، لم يكن حجر الأساس في كتابتي عن فيلمٍ عظيمٍ، لمخرجٍ كبير؛ حين اختار دانيال داي لويس، وميشيل فايفر لدوري البطولة، هل كان يعلم أنّهما ولدا في نفس اليوم، التاسع والعشرين من نيسان؟

للتواصل مع الكاتب