الطريق
جريدة الطريق

أحمد خالد توفيق.. الرجل الذي هزم الموت!

أمام قبر العرّاب
حسام مصطفى إبراهيم -

كان العراب ليٌتمَّ اليوم تسعة وخمسين عامًا!

صعبةٌ هي الكتابة عن أحمد خالد توفيق باستخدام الفعل «كان»، وصعبٌ أكثر عدم الكتابة عمن شكَّل وجدان جيل كامل، ومثَّل جسرًا سلسًا انتقلوا عبره من قراءة الكتب الخفيفة إلى عوالم دستوفسكى ورامبو وشكسبير وإدجار آلان بو، قبل أن يعثروا على أصواتهم الحقيقية ويصنعوا أساطيرهم الخاصة.

كحياته كان موته صاخبًا، لمس القاصي والداني، الذى عرفه سنوات والذى لم يصل إليه صيتُه إلا مؤخرًا، الذى عاش في عوالمه سِنى شبابه ومراهقته، والذى تماسّ مع مقال له هنا أو هناك مصادفةً، أو لفتت انتباهه عبارة منسوبة إليه يومًا، فلزم مجلسه وأقعى بين يديه!

أول لقاء لي مع العرّاب كان في حفل توقيع أحد كتبه.

كنت في زيارة إلى القاهرة -لم أكن قد استقررت فيها بعد- وعلمت من صديق أن له حفل توقيع، فذهبت إليه وقلبي يدق من البهجة، هل فعلًا سأرى أحمد خالد توفيق؟!

الرجل الذى مدّ يده ولمس قلبي في صغري، وآنس وحدتي وصادقني وطمأنني أنني بخير، وأن ما أشعر به طبيعي وسوف يمر، وكان نافذتي على عالم جديد وغريب وساحر ورحيب، كان في مقام «جوجل» و«يوتيوب» بالنسبة إلىَّ قبل اختراعهما!

حقيقة لم أتصور أنني محظوظ لهذه الدرجة! وعندما اقتربت منه وسط هالة من القراء، توقفت فجأة، وكدت أهرب، فقد خشيت للحظة أن يكسر الصورة الرومانسية التي أرسمها له، قابلت من قبل كتَّابًا وصحفيين على النقيض تمامًا مما يكتبون، والعراب كان أغلى عندي من أن يتحطم مثلهم!

لكن لهفتي غلبت خوفي في النهاية ووقفتُ في حضرته!

الرجل الذى يلقاني لأول مرة، سلَّم علىَّ بحفاوة كاملة الدسم، ومنحنى اهتمامه وهو يسمع كلماتي المبعثرة التي تحكي فضله علىَّ، ثم كان دوره أن يتلعثم وتحمر وجنتاه وهو يحرك يده أمامه كأنه يقول لي: لا تبالغ، أنا لم أفعل شيئًا!

لم يخذلني العرّاب، لا هذه المرة ولا كل المرات التي تقاطعت دوائرنا فيها بعدها، حتى تخيلت أنني صفيّه، ولى مكانة خاصة لديه، قبل أن أكتشف أن هذا ديدنه أبدًا، كلُّ من طَرَق بابه عاد مجبور الخاطر، وكلُّ مَن سأله معروفًا لم يردّه، هذا رجل «شبعان» بالمعنى الحرفي للكلمة، لا يريد من الدنيا سوى أن يُترك وشأنه ليمارس ما يُحب، ويُفضّل دفء المودة الصادقة على دفء كشافات التصوير في البلاتوهات «المتكلفة»، ظلّ لآخر يوم في عمره يستحي إن أردت التقاط صورة معه، وتحمر وجنتاه خجلًا إن مدحت كتابته، ولا يمانع في السفر إليك في أي مكان ليحضر مناسبة دعوته إليها، رجل قبَّل رأس أحد قرائه عندما علم أنه آتيه من أسيوط، وقال له «لو قُلت لي لجئتك أنا»، وعندما كان يمتحن طالبًا في كلية الطب، ولم يستطع الإجابة، لم يطعنه برمح مسموم في قلبه أو يمثّل بجثته، إنما ترك الامتحان وأخذ يشرح له!

قيمة العرّاب ليست في أدبه -رغم عظمته وبساطته وإمتاعه وسبقه أبناء جيله في الأسلوب والتوليفة والحبكة- لكن في إنسانيته، في قُربه من كلِّ قرائه في الوقت نفسه، في تصالحه الكامل مع الضعف والهشاشة البشرية، وإيمانه ببراح الفرص الثانية، في ثقافته الفريدة غير التقليدية التي تتيح له إجابة كل ما يخطر ببالك. رفعت إسماعيل، بطل ما وراء الطبيعة، كان أنا وأنت وكل الحالمين الذين لم يعد شيء يدهشهم، كان فضولنا وتوقنا الأبدي للكشف والحلول والمغامرة، كان العمود الفقري الذى يرفع قاماتنا ويعيننا على إكمال الحياة.

والآن أكتشف، في كل مرة تستعد لإلقاء «إفّيه» ما، تجد عبارة من عباراته على لسانك، في كل مرة تكتب عملًا إبداعيًّا تُطل في رأسك شخصية من شخصياته، في كل مرة تنوي فيها مغازلة فتاة، تتسع ابتسامتك وأنت تتذكر موقفًا له، كأنه عاش ألف عام متسع العينَين يرى ويستوعب ويخزّن كل ما تطوله يداه، ثم لم يستأثر به أو يبخل أو يداري، إنما راح يقطّره سحرًا حلالًا لكل من حوله، فهو يريد له أن يعيش أكثر من حياته نفسها، يريد أن يستمر النهر في التدفق دون مصب أو محطة نهاية، وينضوي المزيد من المريدين تحت لواء المتعة والمعرفة.

لقد تأثّرنا بالعرّاب أكثر مما كنا نعتقد، وسافرت جذوره فينا أعمق مما تصورنا، وهو ما اكتشفه كل منا على حدة أمام قبره!

كنا مذهولين، ننتظر في أي لحظة أن يخرج العرّاب بنفسه ضاحكًا من التربة ويقول لنا «هلم بنا نتناول بعض الطعام وندردش»، فلدينا الكثير جدًّا مما لم نقله له، ولديه الكثير جدًّا مما كنا نتمنّى سماعه، لكن خطّيتنا نسياننا أن الموت خفيف الحركة إلى هذه الدرجة، وقادر على كسر القلوب وحنى الجباه في أي لحظة دون رحمة!

أمام قبره، وقف كبار وصغار، بنات وأولاد وشيوخ، منتقبات وملتحون، يحدّقون في ساكن الضريح المحتجب ويبكون، يكتبون رسائلهم له بخط اليد ويعلّقونها بأصابع مرتعشة على الجدران واثقين أنه سيقرؤها واحدة واحدة، يشاركونه أحلامهم ومخاوفهم وحزنهم وانهيارهم -كما اعتادوا دائمًا- يقرأون القرآن ويدعون ويعزى بعضهم بعضًا، ويتسند أحدهم على الآخر، بعد أن لم يبق لهم سوى أنفسهم، وذكرياتهم معه، وما لقنهم إياه بمحبة طوال عمره.

يقولون له: لا تخف ولا تجزع فنحن إلى جوارك وحولك، كما كنت معنا طوال الوقت.

وفى العزاء، الذى زحف إليه المريدون من جميع محافظات مصر، وخارجها أيضًا، لم يأت أحد ليقدم التعزية، إنما ليتلقى عزاء العرّاب بنفسه، فهو فقيدهم بنفس القدر الذي هو فقيد عائلته.

الدموع في العيون، والدعوات على اللسان، ودفء الوجود في مكان عاش به وتنفس هواءه وكتب عنه، يدغدغ القلب.

لكنّ عزاءنا الحقيقي أنه رجل لا يهزمه الموت، ولا تغيّبه المحنة، إنما تزيده ألقًا وحضورًا وبهاء.

كل سنة وإنت طيب يا دكتور أحمد.