الطريق
جريدة الطريق

هكذا تبدأ الصباحات الطيبة!

حسام مصطفى إبراهيم -

أوصلتُ الأولاد إلى المدرسة، وفي عيونهم النعاس لا يزال، وربما كلمة أو كلمتان يودّ أحدهما -لولا الحياء وفارق السن وما أمنحهما من مصروف!- أن ينغزني بهما في "جِنابي"، وكأنني السيد وزير التعليم الذي قرَّر أنََ على طلاب مصر قاطبة أن يسعوا إلى بناء المجد من النجمة كل يوم!

قلت لهما وأنا أُسلمهما الشنط، ليبدآ رحلة الحصص الخمس الممتعة:

-"بصوا للنُص المليان من الكوباية يا ولاد، بُكره إن شاء الله تكبروا وتخلّفوا، وتشمتوا براحتكم في عيالكم وانتو موصَّلينهم المدرسة الصبح، زي ما أنا شمتان فيكم دلوقتي!"

ثم فررتُ بجلدي قبل أن أسمع تعليقهما!

بدأتُ رحلة العودة، وقُرب أحد المواقف، جذبتْ عيني "نصبة شاي"، وضع صاحبها أمامها "راكية نار" تُشع دفئًا وحكاياتٍ، فبدا الجو أسطوريًا بامتياز، بنسمة الهواء الباردة التي تتخلله، والشبورة الخفيفة التي تغلف كل شيء من حولنا، وأصوات البشر الساعين على لقمة العيش المختلطة بنداءات الباعة وكركرة الجوزة في مكان ما، وصوت الست يصل إلينا مشوشًا تشويشًا استاتيكيًا محببًا من نافذة عربة متوقفة على الجانب!

لم أستطع أن أقاوم، فنزلتُ وطلبتُ شايًا بالنعناع، فجاءني من فوره -كأنه كان هناك دائمًا وأنا الطارئ عليه لا هو!- وأخذت مكاني أمام الراكية، مستلذًا دفئها الذي بدأ يتخلل عظامي، كأنه مساجٌ للروح!

وعلى صوت الرشفات المتقطعة، وتقليب السكر في الكوبايات، و"كلكسات" العربات المندفعة إلى مصاير لم تُخّطُ بعد، مارستُ هوايتي في تجاذب أطراف الحديث مع "أبو عبد الله" صاحب النَصبة، الذي كان سخيًا بالحكايات، فلوَّن يومي بقصص أبنائه وزوجاتهم ومغامراته أيام الشباب في شرق مصر وغربها، حتى استقرَّ به المقام ها هنا. يضحك ويقول: "عليا الطلاق الحياة حلوة"، فأبتسم له وأنا أقول: "نعم لولا إن "شايك" تقيل"، فيضحك بصوت أعلى ويردف: "أنا عملتهولك زي ما بحبه أشربه والله يا أستاذ".

ويرفض أبو عبد الله أن يتقاضى ثمن كوب الشاي رغم محاولاتي، وهو يقول:

- "والنبي انت آنستنا.. ابقى تعالى كل يوم".

كنت أقول في نفسي، هكذا تبدأ الصباحات الطيبة، وتغسل الروح من ربقة الجري في الساقية ووهم المكانة، ويُعاد شحن طاقة الإنسان ببساطة ويُسر وبلا تعقيد، من أجل مزيد من الكفاح في دنيا ربما ليست كما نتمنَّى بالضبط، لكنها النسخة الوحيدة التي سيتاح لنا أن نعيشها، فلا مفر من أن نحاول إتقان ذلك.

وتيّقنتُ وأنا أُلملمني وأنتزعني من المشهد بصعوبة أنني أحب حياتي، أحب أسرتي وأقداري، أحب بلدي وأهلها، وأحب أن أكون في هذا الجزء من العالم والتاريخ، رغم كل شيء، وأرجو أن يحبّني كل هؤلاء كما أحبّهم!

اقرأ أيضًا: صديقي محمد رسول الله