الطريق
جريدة الطريق

نقلا عن العدد الورقي.. زين العابدين خيري يكتب: هكذا صنع خيري شلبي وحيه

-

كوب من الماء الساخن، اسفنجة أو قماشة قديمة، عشرة أقلام حبر، وزجاجة حبر.. كانت هذه باختصار هي مقادير استحضار الوحي عند خيري شلبي.. وإليكم الطريقة:

قم بتنظيف الأقلام جيدا عن طريق ملئها وتفريغها عدة مرات بالماء الساخن لتتخلص من بقايا الحبر القديم الذي صار جافا، ثم اتركها قليلا لتجف، وبعدها ابدأ بملئها من جديد ولكن بالحبر هذه المرة..

لم يكن خيري شلبي في حاجة إلى أكثر من هذه الدقائق ليكون وحيه مستعدا تماما لإمداده بما يحتاج من أفكار ستتدفق إلى الورق تدفق النيل في سنوات الفيضان السمان، ففيها يكون ذهنه قد صفى تماما، وتكون عضلات أصابعه القوية قد سخنت كلاعبي الكرة الذين يجرون تمارين الإحماء قبل المباريات بقليل، فهيمقبلة على ساعات من الكتابة المتتالية، ولن يرغب هذا الوحي أن يقطعه شيء ولو بسيط كملء قلم نفد حبره، فبدلاء القلم التسعة جاهزون للاستعانة بأحدهم في أي وقت وحتى نهاية السهرة التي ستمتد غالبا حتى الصباح.

بالطبع الأمر لم يكن بهذا اليسر، ولم يكن مداد الكتابة الغزيرة التي أنتجها خيري شلبي مجرد حبر في أقلام عدة يملؤها قبل بدء سهرته الكتابية، ولكن كانت الخطوات السابقة مجرد تأهيل نفسي لما هو مقدم عليه من فعل كتابة يومي، درّب نفسه عليه سنوات طويلة ليصبح روتينا حياتيا، فماكينة الكتابة لابد وأن تعمل يوميا ولا بد وأن يكون هناك مُنتج ما، فصل من رواية أو جانب من قصة قصيرة، أو ربما مقال أو بورتريه، المهم أن تكون هناك كتابة، حتى لو انتهت الليلة برفض كل ما كتب وإعدامه.

أما المداد والوحي الحقيقي لخيري شلبي فكان تجربة حياتية طويلة وغير مسبوقة، تجربة عرفت مبكرا الشقاء والتعب، حياة مُرة لم تمر مرور الكرام بل حفرت آثارها في قلبه قبل أن تتحول تجاعيد في يده أو على وجهه، بل هي ليست مجرد حياة واحدة، فمن عمل في صباه نجارا وحدادا ومكوجيا وبائعا سرّيحا وخياطا وعاملا مع عمال التراحيل لن تكفيه أبدا حياة واحدة ليفعل كل ذلك، ومن ينشأ في أسرة جار عليها الزمن وانقلب حالها ليصبح الطفل خيري شلبي الذي يتأهب لدخول المدرسة مطالبا بالإنفاق على تعليمه بل وأسرته لن تكون حياته فيما بعد عادية أبدا، ومن يدرك في عز هذا الشقاء أن مستقبله أن يصبح كاتبا لن يكون أبدا كاتبا تقليديا ينتظر من الوحي أن يتلطف به، ولن يجلس أبدا في برج عاجي ينتظر الإلهام ليأتيه من السماء، بل هو اكتفى بما منحته له السماء من موهبة عملاقة وما منحته له الأرض من تجربة ثرية لتظل وحيا دائما ومعينا لا ينضب، يكفيه فقط أن يتأهب نفسيا ليستعيد حيواته المتعددة، مشبعا بالتجربة والرضا عن معارفه وتقنيات فنية تحصل عليها عبر الأعوام الطويلة، ولم يكن يقلقه إلا المرض الذي يذل الإنسان، ولكنه ظل يقاوم قلقه من المرض بالاستمرار في الكتابة متوحدا مع وحيه حتى النفس الأخير.