الطريق
جريدة الطريق

محمد عبد الجليل يكتب: ”زفة ابني الليلة”

الكاتب الصحفي محمد عبد الجليل
-

اكتبوا ما شئتم من كلمات الرثاء والنعي، أطلقوا ما شئتم من عبارات التعازي والمواساة، فـوالله لن تكفي كل لغات العالم ومداده وحبره كي تجسِّد هذه اللحظة الإنسانية التي ودَّع فيها اللواء محمد مشهور جثمان ابنه النقيب إسلام، الضابط بالقوات الخاصة، شهيد معركة الواحات البحرية.


فكل ما كُتِب ويُكتَب، وكل ما قيل ويُقال، وكل مَن يخرج متضامنًا في تعاطف وشجب وحزن ورثاء واقتصاص من القتلة، لن يساوى نزيف اللواء مشهور الذي لم يكن ينزف دمًا، بل كلماتٍ مخضبة بالدمع والبشارة، في عاطفتين امتزجتا في قلب والد الشهيد، عاطفة الأبوة التي كُسِر ظهرها ومات سندها وتحطَّم عكازها، وعاطفة رجل الأمن الذي يعلم أن النقيب إسلام وزملاءه ليسوا أمواتًا، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحون بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون.

الكلمات التي نضح بها لسان اللواء مشهور عند مشاهدته جثمان فلذة كبده لم تكن رثاء، كانت مناجاة تنطق بالحزن الذي اعتصر قلب رجل الأمن عندما رأى جثة ابنه مخضبة بدماء الكرامة في ليلة كأنها ليلة عُرْسِه، فقال: "يا صاحب الوجه النضير، يا تاج الزمان، يا نور المكان، يا درب الحب، وصدر الحنان، لو كنت أملك أن أهديك قلبي لنزعته من صدري، لو كنت أملك أن أهديك عمري لسجّلت أيامي باسمك".

من يرى اللواء مشهور للوهلة الأولى عندما حضر إلى المستشفى حيث يرقد جثمان ابنه الذي استشهد في حادث الواحات البحرية الإرهابي في 20 من أكتوبر عام 2017، يظن أن الرجل جاء لواجب يليق بهيبة رجل شرطة لا أكثر، لكن أين هذا من شلال الدموع وفيضان الأحزان الذي فاض على من حوله، فلم يتمالكوا أنفسهم من البكاء؟! وعندما طلب أن يشاهد جثمان ابنه بالكامل، قبل أن تبدأ إجراءات تكفينه، لم يعترضه أحد أو يمنعه.

هذه لحظة يواجه الرجل فيها الموت والأبوّة، يعود الزمن به متذكرًا وليده المغدور، شبَّ واستوى عوده وحمل سلاحه دفاعًا عن الأرض والكرامة، لم يتردد الرجل في سحب الغطاء عن جسد ابنه، كان يريد أن يتأكد بنفسه أن الولد المأسوف على شبابه لم يتراخ عن واجبه حتى وهو يموت، ولم يستجب اللواء مشهور للأيدي التي حاولت سحبه خارج الغرفة، إلا عندما رأى آثار الرصاصات في صدر الشهيد الشاب، فنطق الشهادة بالله ورجع خطوتين إلى الخلف تليقان بجلال الموت، ثم مال على صدر ابنه وطبع قُبلةً على رأسه وضمَّه إلى صدره قبل أن يودعه إلى مثواه الأخير.

لحظة الخروج من باب الغرفة كانت الأصعب، كأن اللواء مشهور لا يريد أن يفارق ولده في هذه اللحظات، أراد أن يبقى معه، ولم يهوَّن من صعوبة الفراق إلا صوت ابنه الثاني يناوله هاتفه المحمول الذي كانت والدة الشهيد على طرفه الآخر.

على الطرف الآخر لا يأتي إلا صوت بكاء هستيري، فيضطر اللواء مشهور للتماسك وبصوت متهدج استدعى معه كل جبال الصبر، أمر زوجته أن تكف عن البكاء: "بطَّلي عياط.. ابنك مات رجل، وواقف على رجله، الرصاص جاي في صدره، ابنك واجه الموت ولم يُدر له ظهره، زغردي.. أنا جاي به طنطا وهنزفه الليلة.. اوعاكي تعيطي.. زغردي.. إسلام راجل وعريس الليلة"، ليسقط بعدها التليفون من يده، وينهار كل الرجال من حوله في البكاء، إلا هو، ظل محتضنًا ابنه، كما استقبله وليدًا لأول مرة، يزفه شهيدًا لآخر مرة.

اقرأ أيضًا: محمد عبد الجليل يكتب: لماذا غضب حبيب العادلي من الصحفيين ووصفهم بالشياطين؟ ونصيحته لأصحاب الأقلام