الطريق
جريدة الطريق

طارق عبد اللطيف يكتب: عندما ضحك المهرج

طارق عبد اللطيف
-

استعد يا كركور .. فقرتك التالية

كان كركور يجلس على مقعد خشبي متهالك بجوار المدخل الذي يؤدي إلى قاعة الاستعراض بالسيرك.

كان يجلس متدلياً على الكرسي وكأن هناك ما يشده نحو الأسفل .. وكأنه تمثال صب من شمع .. وبدأ يذوب!!

فرأسه منحنية للأسفل .. ومنكباه منحنيان للأسفل .. وذراعاه منحنيان للأسفل وجميع ما به منحني لأسفل .. وكأنه يذوب!!

وكانت تتأرجح بين يده المدلاه نحو الأرض كوباً من الشاي لم يعد يدري هو نفسه هل ما زال صالحاً للشرب أم طاله العطن كذلك؟!!

كركور هو اسمه الذي يناديه به الجميع، الجميع يعرف أنه كركور .. فقط كركور.

كل من في السيرك وخارجه وحتى الأطفال في الصفوف الأولى هو بالنسبة لهم فقط كركور.

حتى أن حيوانات السيرك لو نطقت لقالت أنه كركور.. فقط كركور.

لا أحد يعلم عمره، فالأصباغ التي صارت منطبعة على وجهه حتى في غير أوقات العروض من طول ما التصقت به قد أخفت عمره الحقيقي عن الجميع.

فلا الأطفال ينادونه يا عم كركور .. ولا الشيوخ تقول له واد يا كركور!!!

هو بالنسبة للجميع كركور.. فقط كركور

بالرغم من أنه إنسان طبيعي يحمل وجهه عينان وأنف .. وفتحه غريبة كان دوما يسخر من منظرها يعلم أنها فمه.

وفوق ذلك يحمل بطاقة شخصية، لها رقم قومي، مكتوب فيها .. جاد عبد الراضي مجاهد.

ويحمل تاريخ ميلاد هو نفسه لم يعد يذكره، هو من البداية لا يدرك غير أنه ولد في هذا السيرك، تفتحت عيناه تحت خيمته، مضت سنوات وسنوات وهو يعمل هنا.

وهو دائما كركور

صار ظهره منحنيا وصار يجر قدماه -اللتان كان يتشقلب بهما في الهواء- جراً أثناء العرض، كثيراً ما كان يتألم جسده أثناء العرض حد البكاء، ولكن كانت تتكفل الأصباغ التي يحملها على وجهه بإزاحة معالم هذه الآلام ورسم تلك الابتسامة البلهاء فوقها.

ولكنه ظل كركور!!

صارت الأطفال لا تضحك لحركاته، صارت نكاته لا تضحك الكبار!

الأطفال صاروا ينظرون له وقد تربعت أيديهم وبدا عليهم الملل، والكبار يتأملونه بجانب أعينهم وقد شغلتهم أحاديث جانبية، وقد بدت على وجوههم صرامة لا تتسق وتلك الخيمة .. ومع فقرته هو شخصياً!!

ولكنه ظل كركور!!

إن أكثر ما يؤلم قلبه أن الناس صارت لا تضحك لنكاته.. صار غير قادر على صنع البسمة! .. وهو لا يعلم مهنة غيرها.

لا يعلم إلا أنه كركور.. هو فقط كركور!!

بالأمس بعدما عاد إلى غرفته التي يتقاسمها مع ابنته أمل، بعد أن رحلت زوجته منذ سنوات لم يعد يذكر عددها.

كانت آثار الأصباغ على وجهه حينها قد خف أثرها، حينما قرر أن يأوي للفراش، استلقى على جانبه الأيمن ينظر نحو أمل التي فتحت عيناها ورأت في عينيه حزن وآثار دمعة تنوى الفرار لأول مرة!!

فنهضت وهي تحدق في وجهه..

كركور هل دخل شيء ما في عينيك؟!!

أجابها بصوت يتحشرج وينشرخ بالبكاء..

يبدو ذلك

فتحت عينيها عن آخرها عير مصدقة

كركور.. أنت تبكي؟!

فرت الدمعة هاربة من بين جفنيه واستقرت على وسادته فراح بعينيه يرنو سقف الغرفة

الناس صاروا لا يضحكون.. أضحت حركاتي بلهاء .. باتت نكاتي قديمة. صار كل ما أفعله يعجز عن إضحاك الناس!!!

حتى الأطفال صارت لا تضحك !!

حتى عندما أسقط بنطالي.. ويبدو من تحته ردائي الداخلي الأبيض بدوائره الحمراء الكبيرة!!

قديما كانوا يقعون على الأرض من الضحك حينما أفعلها .. صارت لا تضحكهم!!!

ولأول مرة تذرف عينا أمل دموعها.. وتحتضن أباها..

كركور صدقني العيب ليس فيك .. أنت ما زلت كركور.. العيب في الناس ..

انتبه على صوت يصيح به .. أخرجه الي اللحظة

كركور.. فقرتك

و انطفأت أضواء الصالة ..

ثم أضاءت بألوان بهية، وتدلى في كبرياء ميكروفون ذهبي من السقف، فتناوله الرجل الذي يرتدي بدلة فضية وقبعة سوداء لامعة..

الآن.. مع السعادة .. مع البهجة والسرور .. مع صانع الضحكة المشهور

كركوووووووووور

وانطلقت الآلات الموسيقية النحاسية تعلن في صخب عن دخول كركور، الذي دخل إلى قاعة العرض يجرجر قدميه.

وانتهت الموسيقى وهو يقف في وسط القاعة..

وساد الصمت..

وانحنى كركور ليحيي الجمهور .. فانفتق بنطلونه .. وبدا من تحته ردائه الداخلي الأبيض بدوائره الحمراء الكبيرة.

رفع كركور رأسه نحو الجمهور في يأس.. ثم أعاد عينيه إلى الأرض

.. وفجأة شق صمت الصالة ضحكة عالية وحيدة !!

رفع كركور عينيه في دهشة

كانت امل تجلس في الصف الأول تضحك بلا انقطاع،

ولأول مرة منذ سنوات ملأت البسمة وجه كركور وهو يرى ضحكة أمل.

فقام بحركته التالية .. التي يخلع فيها قبعته فتسقط منها دجاجة

انطلقت أمل تصرخ من الضحك .. وحيدة.. ثم ضحكت مرة أخرى.. بصوت أعلى

ثم جاءت ضحكة من آخر الصالة، تلتها ضحكة أخرى على استحياء من اليمين، ثم انطلقت امرأة تقهقه بضحكة مائعة ممطوطة من ناحية اليسار!!

وشرع كركور يقدم فقراته والضحكات تتصاعد من حوله .. كان كركور يتحرك كالمجنون غير مصدق!

تملأ وجهه وجسده وكل ما يملكه البهجة، شهد لنفسه حينها قبل أن يشهد له الجميع أنه يقدم عرضه اليوم كما لم يقدمه من قبل.

لم يرى في نفسه هذا الحماس والإحساس منذ سنوات لا يحصوها العد، انطلق يلعب في القاعة والضحكات تنهال عليه، حتى أنهى فقرته وهو يقف شامخا بسعادة في منتصف القاعة.

كانت الجماهير جميعا قد وقفت وهي تصفق له في سعادة وبدأ بعضهم يلقي إليه بالورود والحلوى!!

والأضواء ما زالت تتراقص في بهجة، حتى أنهم إضطروا لترك الإضاءة لفترة أطول حتى ينتهي الجمهور من تحيته!!

وخرج كركور من باب القاعة إلى داخل السيرك طائرا لا تحمله قدماه.

ووقف جميع أهل السيرك يحيطون به وهم يضحكون ويهللون ويصفقون له في انبهار

رائع يا كركور .. وانطلقت الأصوات مختلطة من حوله

هذا هو كركور.. كركور سيظل كركور.. وحشتنا يا كركور

وفجأة.. وأمام ناظري الجميع سقط كركور على الأرض ممسكا قلبه، وعلى وجهه قد ارتسمت ضحكة حقيقية غلبت تلك المصبوغة عليه، وظهرت أمل تدفع الناس حتى وصلت إليه وجلست إلى الأرض وأخذته إلى صدرها

كركور

كانت عينا كركور تؤذن بالرحيل .. فبكت أمل

لا ترحل يا كركور

بآخر أنفاسه رفع يده يتحسس وجهها وقد انفرجت شفتاه عن بسمة هائلة لم ترها أمل نفسها من قبل!!

وخرجت أنفاسه هامسة ..

.. كركور ضحك يا أمل .. ..

وأغمض عيناه .. وانطلقت صرخة أمل

وكانت عيون الجميع من حوله قد تحجرت فيها الدموع .. وبهتت وجوههم

ولكنهم كانوا فرحين .. أن كركور رحل ضاحكا!!

وصاروا يحملون في ذاكرتهم جميعاً

ذلك اليوم الذي ضحك فيه المهرج . . . فمات

....

إهداء

إلى روح صديقي الذي رحل مبكراً .. وهو لا يعلم .. وأنا نفسي لم أكن أعلم كم أحبه.. وكم كنت أدخره للأيام الجميلة.

إلى صاحب الروح الخفيفة الذي عاش خفيفاً .. ورحل خفيفاً.

إلى الروح اللطيفة .. لطفي.

وإلى أرواح جميلة باقية .. دمتم ودام ودكم .. فوالله أحبكم.

طارق عبد اللطيف