”تمرد فاشل جديد”.. حيث الصعلوك والزعيم والميديا!
"وآكل لأعمـل، فأعمـل، أجـوع فأنفق لأحيـا، وأحيا لأعمـل فأنفق لآكل، سـيقطعني الموت ولا شيء سـواه، ما أن تدخـل في دورة تكرار أي شيء لـن يقطعها سـوى الهـرب، وهل تعرف الهـرب؟ نعم تعرفه، هـو الركض فجـأة دون أي مقدمـات، ما أن تحل في رأسـك الأحجية وتصـل للمعنـى المشـفر وتـدرك أيـن تبـدأ، تنتهـي دائـرة التكـرار، لا تجمع أشياءك، أو لا تقوم من مكانك، لا تفعل شيئا سوى الاسـتمرار في جولـة أخـرى مـن الدائـرة".
هذه الكلمات السابقة ليست مجرد قطعة مجتزءة من رواية فقط، وإنما يمكن اعتبارها دستور الروائى "خالد أحمد" فى تعامله مع شخصيات رواياته، فأبطال رواياته دائما مهمشون، فقراء، ضعفاء، يعيشون هذه الحياة بقوة الدفع، وفى انتظار كلمة النهاية التى سترحمهم من هذه الحياة.
فى روايته الجديدة "تمرد فاشل جديد" التى صدرت حديثا عن "دار المصرى" يكوّن "خالد أحمد" عالمه الأثير الذى يحبه عبر ثلاث شخصيات رئيسية هى الشاب المجنون المتشرد، والزعيم حامى الحمى الذى لا ينطق عن هوى، والإعلامى الفاسد بتاريخه الأسود، ورغم أن الشخصيات متباعدة فى الزمان والمكان إلا أنهم يجتمعون فى لحظة، وتكتشف أن مصائرهم تتلاقى بصورة أو بأخرى، وسيتكرر هذا التلاقى دائما بينهم ما دامت الحياة مستمرة فى ميزانها الأعوج وفسادها المنتشر.
خاض "خالد أحمد" تحديا كبيرا بعد أن كتب روايته فى ثلاثة أقسام على هذا النحو، فكان لزاما عليه أن يلتزم بلغة الراوى وزمانه ومكانه فى كل قسم، فلغة المجنون المتشرد الذى أصبح بين ليلة وضحاها زعيما سياسيا تتهافت عليه القنوات والشخصيات السياسية هى لغة الشارع العادى، بل إنها لغة العالم السفلى من الشارع إذا جاز لنا التعبير، ثم تتغير اللغة والتعامل بين الشخصيات تماما فى القسم الثانى حيث ألاعيب قصر الزعيم، وعلاقته بمستشاريه وحراسه حتى نهايته المحتومة، وتتغير اللغة مرة ثالثة مع هذا الفتى الصغير الذى عاش طفولته مسحوقا فى رمال صحراء "الشرم" بين بقايا السجائر وبصاق العمال حتى أصبح أشهر إعلامى فى البلاد.
تعدد الأصوات فى الرواية منحها عمقا ونضجا، وخصوصا أنها تتحدث عن أجواء سياسية اجتماعية تتماس مع حياة الأفراد المطحونين، فأصبح الحدث الواحد له أكثر من وجهة نظر، ومن سبب، ومن نتيجة، وأصبح الشخص الواحد يتم وصفه فى أجزاء من الرواية بصفات مختلفة حسب الراوى. وهو ما يعطى فى النهاية درسا عميقا هو أن ما تراه على السطح مهما بدا حقيقيا، ومهما كنت مقتنعا به فهو فى النهاية مجرد صورة أحادية لا تعرف جوانبها الكاملة، فلا تعتبر نفسك صاحب الحق المطلق، فلكل منا أسبابه ودوافعه ووجهات نظره.
اتسمت الرواية بخفة ظل واضحة، نبعت بصورة أساسية من جو الرواية، ومن التناقض بين شخصياتها، ومن الفساد الذى استشرى فى عالمها الخاص.
"تمرد فاشل جديد" رواية بديعة، وخطوة فى مشوار "خالد أحمد" الأدبى المبشر، ظلمها عنوانها الذى لم يكن موفقا ولا معبرا عن أجواء الرواية فى رأيى.