الطريق
جريدة الطريق

رسالة «مانوشيان» إلى صغيرته اليتيمة

-

في الساعة الثالثة من ظهر يوم الحادي والعشرين من فبراير1944، كانت منطقة "مونت فاليريين" على موعد مع حدث مأساوي، سيطرأ على حياة ستة وعشرين رجلا فرنسيا من جماعة "جيش الجريمة"، ذلك أنهم سيقفون محدقين في فوهة البنادق، تنظر إليهم عيون جنود الجيش النازي في انتظار إشارة القائد التي ستنهي ذلك المشهد.

في الحقيقة لم يرتكب هؤلاء الرجال أية جريمة، لكن النازيين أطلقوا عليهم تلك التسمية بعد أن علقوا ما يسمى بـ "الملصقات الحمراء"، وهي عبارة عن تحذير من إرهاب "ميساك" ومجموعته، واتهموهم وقتها بتصفية 150 شخصا وجَرْح 600 آخرين، لم يكن يتخيل هؤلاء الرجال أنهم سيقفون في يوم السابع عشر من فبراير أمام محكمة عسكرية ألمانية وسيحكم عليهم بالإعدام رميا بالرصاص.

من بين هؤلاء الرجال ثمة شاعر يدعى "ميساك مانوشيان" استقبلته مدينة أديامان التركية في عام 1906 صحفيا وشاعرا فرنسيا من أصل أرميني، والذي قُتل والده في المذابح العنصرية ضد الآرمنيين في تركيا، وفقد أمه في المجاعة التي تلت تلك المذابح، بعدها تكفلت به عائلة كردية وإن كانت رواية أخرى تقول إنه نشأ في دار للأيتام، وأنها أنقذته مما يتعرض له الأرمن في تركيا، حتى غادرها إلى إحدى الدول العربية ومنها إلى فرنسا في العام 1925 حيث عمل في أحد المصانع، وبعدها أصبح المسئول العسكري لمجموعة من المهاجرين المنظمين في فرقة "أنصار" والتي كانت تعمل مع الحزب الشيوعي الفرنسي في باريس.

أدرك "مانوشيان" أنه لن يرى زوجته (صغيرته اليتيمة) بعد ذلك اليوم وهي التي لم تعش في كنفه سوى أيام قليلة؛ فقرر أن يكتب لها حتى ولو تلعثم، فماذا عساه أن يكتب وكل أحاسيسه وخواطره مبلبلة وواضحة في آن واحد، كتب لها -وهو الذي عاش طفولة معذبة ومات ولم يتجاوز من العمر الثامنة والثلاثين- يحثها على الزواج! فيقول "يحزنني جدا أنني لم أستطع إسعادك. كم تمنيت أن يكون لي طفل منك كما تمنيت أنت دائما. لذا أرجوك أن تتزوجي بعد أن تضع الحرب أوزارها. تزوجي انسانا يستطيع إسعادك".

كتب "ميساك" رسالته بسلام نفسي وتصالح مع كل أخطاء الذات البشرية، الصغيرة منها والوحشية، لدرجة أنه لم يكن غاضبا من الألمان الذين أعدموه، فيقول في رسالته "أصرخ وأنا أجابه الموت أنني لا أضمر حقدا على الشعب الألماني.. فكل واحد سينال ما يستحق من عقاب أو جزاء. الشعب الألماني وبقية كل الشعوب سيعيشون بسلام وأخوة بعد هذه الحرب التي أشرفت على الانتهاء. أتمنى كل السعادة لجميع الشعوب".

تمنى ميساك في رسالته كل السعادة للذين سيبقون من بعده على قيد الحياة في دعوة للتسامح وتمجيد للإنسان، فيقول "كل السعادة للذين سيبقون من بعدنا على قيد الحياة ويذوقون حلاوة الحرية والسلام في المستقبل. أنا واثق أن الشعب الفرنسي وكل المناضلين من أجل الحرية سيكرمون ذكرانا بمهابة".

بعد أن دقت الساعة الثالثة فقدت فرنسا شاعرا وإنسانا تعتبره هي رمزا لمقاومتها ضد النازيين، حيث تتزين فرنسا بتماثيله خصوصا في واحدة من أهم حدائقها، حديقة "ميساك مانوشيان" في مارسيليا الذي رحل وهو يردد أخر الكلمات في رسالته "الشمس مشرقة هذا اليوم وبالنظر لهذا وللطبيعة الجميلة التي أحببتها جدا في هذا اليوم سأودع الحياة وأودعكم كلكم يا زوجتي الحبيبة وأصدقائي الأوفياء.. أقبلك من أعماقي وكذلك أخواتك وجميع من يعرفني بشكل أو آخر. أضمكم جميعا إلى صدري.. وداعا".

 

 

بشرى محمد