الطريق
جريدة الطريق

ياسر أيوب: كلام جديد عن تفاسير قديمة للتشجيع الكروي

تعبيرية
-

رغم أن مشجعى كرة القدم هم الذين منحوا اللعبة قوتها وشهرتها ومكانتها أيضا .. إلا أن التشجيع بقى حتى الآن أقل المجالات الكروية بحثا ودراسة .. كأن العالم اختار الانشغال بأمور وخطط اللعب الفنية وسبل الوقاية من الإصابات وعلاجها وتطوير البث التليفزيونى وهندسة الملاعب .. وبقى التشجيع الكروى مهملا يستند تفسيره وتحليله لنظريات لا يزال بعضها صالحا للاستخدام لكن تجاوز معظمها الزمن وأثبت الواقع عدم صحتها .. ومن أهم هذه التفاسير ما قاله الأستاذ الأمريكى روبرت سبالدينى حين أكد أن التشجيع الكروى الآن هو الشكل الحديث لسلوك انسانى بدائى وقديم جدا حين كان الإنسان يعيش فى قبائل صغيرة متفرقة .. ولكل قبيلة محاربون يدافعون عنها وعن بقية أعضاء القبيلة .. وأصبحت الفرق الكروية حاليا هى امتداد لتلك القبائل القديمة .. واللاعبون هم الجنود والجماهير هم بقية أعضاء القبيلة الذين يشجعون جنودهم بمنتهى الحماسة للدفاع عنهم وتحقيق الانتصار .. وتصلح هذه النظرية لتفسير هذا الارتباط الحميم والعميق بين الجنود أو اللاعبين فى الملعب وأفراد القبيلة فى المدرجات وأمام الشاشات .. لكنها لا تصلح مطلقا لتفسير مشجعى كل ناد الذين لا ينتمون كلهم لمكان واحد أو مدينة واحدة أو قبيلة واحدة .. تماما مثلما سقطت نهائيا فكرة الارتباط الجغرافى والتشجيع الكروى .. صحيح أن هناك أندية كثرة فى العالم لا تزال تحظى بميزة الجغرافيا مثل ليفربول ومانشيستر فى إنجلترا وبرشلونة ومدريد فى إسبانيا ومارسيليا فى فرنسا والميلان فى إيطاليا والإسماعيلى والمصرى والاتحاد فى مصر .. لكن الجغرافيا لم تمنع سكان هذه المدن من تشجيع اندية أخرى منافسة كما لم تمنع أيضا من لا ينتمون لهذه المدن من تشجيع أندية تلك المدن
ويقدم سايمون كوبر الكاتب والصحفى الإنجليزى الفرنسى نظرية بديلة عن الارتباط الجغرافى ويؤكد أن التشجيع الكروى لا يتعلق بالكرة نفسها أو نتائج الفريق .. لكنه بحث دائم ومستمر وضرورى عن الانتماء لجماعة وسط عالم ضخم ومعقد ومخيف .. فالإنسان فى داخله يخاف أن يكون وحيدا ويفضل دائما الارتباط والانتماء لآخرين يكون معهم ووسطهم .. وهذا الانسان بالتأكيد ينتمى لعائلة وينتمى لوطن .. لكنه لم يختر هذه العائلة أو هذا الوطن وهنا تأتى متعة وسر كرة القدم .. فالانسان كما يقول الأستاذ الأمريكى إريك هوفر يستطيع بكامل حريته وإرادته اختيار النادى الذى سيشجعه ويصبح أحد جماهيره .. وقد يكون اختيار النادى هو المرة الوحيدة التى مارس فيها الانسان حقه الكامل فى الاختيار دون قيود أو ضغوط .. ولأنه اختار النادى بكامل حريته وبات يستمتع بهذا الاختيار .. فإنه لن يقبل بعد ذلك أن يغدو اختياره خاطئا وسيظل يدافع عن اختياره مهما تطلب الأمر .. سيبقى يرفض هزيمة النادى الذى اختاره وحتى لو اضطر لاختراع أسباب لهذه الهزيمة أو مؤامرات خارجية أدت للخسارة
ويضيف بوريا جارسيا أستاذ الرياضة بجامعة لوفبورو الإنجليزية أن تشجيع كرة القدم فى حد ذاته ليس قضية حياة او موت .. فالقضية الأساسية هى الانتماء هربا من البقاء وحيدا وبعيدا .. ويتخيل الإنسان أنه يعشق ناديه ويعيش به وله بينما هو فى الحقيقة يعشق أن يكون وسط كثيرين يشجعون نفس النادى .. ونتيجة هذا الوهم يصبح هذا النادى هو الحياة ويصل أحيانا لمرتبة العائلة والوطن نفسه أو الكيان الذى يمكن التضحية أو حتى الموت من أجله .. ويصبح من لا يشجع هذا النادى هو أحد الأعداء الذين يجب محاربتهم والقضاء عليهم والانتقاص من قدرهم والسخرية منهم .. ويصبح من ينتقد أو يهاجم النادى من الخونة الذين لا احترام لهم أو قبول .. ولا يدرى هذا الانسان ان الأمر فى حقيقته لا علاقة له بالنادى نفسه ولعبة كرة القدم بل يتعلق فقط بالانتماء والبقاء وسط زحام من المشجعين والمؤيدين .. ولهذا تزيد نبرة هذا الانسان حدة ويصبح صوته أعلى حين يكون فى المدرج او وسط مشجعين مثله لنفس النادى .. لكن النبرة تغدو اهدا ويقل الانفعال حين يكون وحيدا .. ويصبح هذا الانسان أيضا أكثر شراسة وجرأة حين يتحدث أو يدافع عن ناديه عبر السوشيال ميديا .. لكنه يكون أكثر هدوءا واتزانا وأقل عنفا وشراسة حين يتحدث مع الآخرين حديث مواجهة حياتية حقيقية
ومن النظريات التى ثبت عدم صلاحيتها ما قالته الدكتورة مارثا نيوسون الأستاذة فى جامعة أكسفورد وأن الأندية التى تتعثر وتتراجع نتائجها يصبح مشجعوها أكثر ارتباط بها من مشجعى الأندية التى تكثر انتصاراتها وبطولاتها .. فهذا الحديث ليس صحيحا وليس واقعيا أيضا .. فالمشجعون لأسباب كثيرة جدا يرتبطون بأنديتهم سواء تفوز أو تخسر .. تتقدم أو تتعثر .. والمشجعون يزداد ارتباطهم بأنديتهم عند الخسارة لأن هذه الأندية باتت بمثابة وطن صغير ينبغى ألا يرفع راياته البيضاء ويعلن استسلامه .. ويزداد ارتباطهم أيضا بأنديتهم عند الفوز لأنهم ذاقوا حلاوة الانتصار ولم يعودوا على استعداد للتخلى عنها .. وعلى سبيل المثال يلتف المشجعون حول منتخباتهم القومية سواء كانت بلدانهم من القوى الكروية العظمى أو بلدان لم يسبق لها الفوز بأى بطولة .. لأن النتائج لا علاقة لها مطلقا باستمرار وحجم التشجيع الكروى
ولم يكن الدكتور جيمس دباس الأستاذ بجامعة جورجيا هو أول أو آخر من اكتشف أن المشجعين أثناء اللعب تفرز أجسادهم هرمونات السعادة والانفعال بنفس القدر الذى تفرزه أجسام اللاعبين فى الملعب .. وهو ما يعنى شدة الترابط بين اللاعبين وجماهيرهم لكن ذلك يعنى أيضا أن الجماهير لا تجلس فى الملعب أو أمام الشاشة فى انتظار النتيجة إنما يصبحون كتلة واحدة مع لاعبيهم ايا كانت النتيجة فالفوز للجميع والخسارة أيضا يتقاسم الجميع مرارتها
وغير نظرية الدكتورة مارثا نيوسون التى ثبتت عدم صلاحيتها وواقعيتها .. ثبت أيضا فشل نظريات أخرى أكبر وأهم وأشهر .. مثل نظرية أن التعلق بكرة القدم وتشجبعها تخص المحبطين الذين لا يملكون حياة إيجابية أو يعانون من الفشل فى حياتهم أو لا يملكون عملا أو عائلة أو مال .. فهناك عشاق كثيرين جدا يرتبطون بأنديتهم دون أن يكونوا محبطين أو فاشلين فى حياتهم .. لا يعانون بطالة او فقرا أو أزمات اجتماعية وانسانية من أى نوع .. وسقطت أيضا نظرية الإلهاء الكروى وأن التشجيع الكروى المجنون يخص بلدانا تفتقد للديمقراطية والحرية فتصبح كرة القدم بديلا لأشياء أخرى كثيرة .. ففى أكثر البلاد ديمقراطية وحرية تقوم كرة القدم بنفس ما تقوم به فى أشد البلدان ديكتاتورية .. والتشجيع الكروى فى البلاد الغنية هو نفسه فى البلاد الفقيرة أيضا