ياسر أيوب يكتب: النار وموسيقى موتسارت فى سالزبورج

فشلت تماما رغم الإلحاح وأكثر من محاولة فى إقناع مايكل دوهان أحد أبطال العالم للدراجات النارية بأن موسيقى موتسارت أجمل وأرق من صوت موتور دراجته وبقية زملائه ومنافسيه .. فقد كان مايكل وبقى مقتنعا بأن صوت موتور دراجته اجمل وأرق من أى سيمفونية لموتسارت وأى موسيقار آخر .. كان مثل باقى الآخرين فى هذا العالم الغريب يفضلون موسيقاهم الخاصة جدا حتى إن كان هناك آخرون كثيرون يرونها صخبا عاليا وضجيجا مزعجا .. فهم أبطال ونجوم هذا العالم العاشق للسرعة والإثارة ومحاولة التوازن طول الوقت بعجلتين فقط .. والسباق المجنون ضد عقارب الساعة .. وبالتأكيد هناك ألعاب أخرى تراهن أيضا على هذه الدقائق والثوانى مثل ألعاب القوى والسباحة .. لكن الأجواء المصاحبة لسباقات الدراجات النارية تختلف تماما فى كل شىء وقد لا يكون ثمن الخطأ فيها خسارة سباق أو بطولة إنما خسارة الحياة نفسها .. ويختلف أبطال هذه السباقات عن أبطال ونجوم ولاعبى أى رياضة أخرى .. يختلفون حتى فى سلوكهم خارج حلبات ومسارات سباقاتهم .. فهى رياضة ذاتية جدا .. فليس هناك بطل للدراجات النارية يعنيه الجمهور وتصفيقه .. إنما يمارس كل منهم هذه اللعبة من أجل ذاته أولا .. انتصاراته وهزائمه تبقى كلها داخله .. مشاعر الفرحة والحزن تبقى داخلهم لا يعبرون عنها كثيرا .. كل منهم ليس يعنيه ما يقال عنه .. حياتهم مختلفة .. دائما على سفر .. من سباق إلى سباق .. من مطار إلى مطار .. من مدينة إلى مدينة .. لا تدق قلوبهم او ترتعش أصابعهم إلا أثناء السباق أو التدريب وحين يأتى أوان صيانة وتزييت وتشحيم دراجاتهم التى ترافقهم فى الليل والنهار
وكنت قد سافرت إلى مدينة سالزبورج فى النمسا فى 1993 بعد انضمامى لفريق روثمانز هوندا لسباقات الدراجات النارية .. كانت بطولة العالم لتلك السنة قد بدات فى استراليا ثم الجولة الثانية فى ماليزيا ثم الثالثة فى اليابان ثم الرابعة فى إسبانيا .. وجاء وقت الجولة الخامسة فى سالزبورج .. المدينة الصغيرة الجميلة التى تقع شمال جبال الألب واستقرت وعاشت على ضفاف نهر سالزاخ وسط حدائق لا أول لها أو آخر .. مدينة لم تجد ما تباهى به مدن أوروبا والعالم إلا أنها المدينة التى أنجبت الموسيقار الشهير فولفجانج أماديوس موتسارت .. عبقرى الموسيقى الذى بدأ يعزفها وهو فى الرابعة من عمره .. ثم بعد سنتين أمام الناس .. وحين بلغ الثالثة عشرة من العمر ألف أول أوبرا له .. وفى حياته التى لم تطل أكثر من خمسة وثلاثين عاما من 1757 إلى 1791 .. ألف موتسارت 22 أوبرا و41 سيمفونية لا يزال يصغى لها العالم بكثير من الإعجاب والاحترام .. ومنذ يومى الأول فى سالزبورج .. كان موتسارت واسمه وموسيقاه وصوره فى كل مكان .. فمطار سالزبورج هو مطار موتسارت .. وكلية الفنون فى المدينة تحمل اسم موتسارت .. وأجمل ميادين المدينة هو ميدان موتسارت .. وأشهر متاحفها هو متحف موتسارت .. حتى الشيكولاتة التى تتميز بها سالزبورج والنمسا كلها هى شيكولاتة موتسارت وعلى كل قطعة منها صورته .. وأهم مزارات المدينة هو البيت الذى ولد فيه موتسارت فى شارع جيتريدجاسى .. بيت قديم مثل كل البيوت المجاورة تم بناؤه من حجارة الكونجاومارا الصلبة التى تم نقلها من الجبال القريبة من سالزبورج
وأقمت مع الفريق فى فندق شلوب فوشيل الذى أعتبره أجمل فندق أقمت فيه فى أى رحلة لأى مدينة .. فقد كان عبارة عن قلعة تم بناؤها 1450 وسط غابات أشجار وورود حول بحيرة فوشيل .. وتحولت بعد 1950 إلى فندق انيق احتفظ بنفس تصميم القلعة وانتثرت غرف الفندق كأكواخ وسط الحدائق .. وكان كل شىء فى البداية يوحى بزيارة استثنائية هادئة حافلة بجمال الورد ممتزجا بسحر الموسيقى إلى أن بدأ أعضاء فريق روثمانز هوندا تدريباتهم استعدادا للمشاركة فى الجولة الخامسة لبطولة العالم .. فاختفت موسيقى موتسارت وعلت أصوات موتورات الدراجات النارية الصاخبة والعالية .. ولم يكن باستطاعتى الابتعاد عن ذلك أو أصبحت مضطرا لنسيان موتسارت مؤقتا والبقاء مع الفريق ومتابعة استعدادات لاعبيه .. وأهمهم كان مايكل دوهان .. البطل الإسترالى الذى لا يزال فى الخامسة والعشرين من العمر وسبق له الفوز بالكثير من السباقات والبطولات .. ولم يكن مايكل دوهان حين التقيت به لأول مرة فى سالزبورج فى 1993 قد نجح تماما فى نسيان ما جرى له فى بطولة العام السابق حين كان المرشح الأول للفوز ببطولة العالم .. ففى أول سبع جولات للبطولة فاز مايكل بخمس منها .. لكنه أصيب أثناء سباق جولة آسن فى جنوب أفريقيا أدى إلى كسور فى ساقيه أجبرته على الإعتذار عن عدم استكمال جولات البطولة .. وكانت المرارة واضحة فى صوته وهو يحكى عما جرى أو حتى حين يؤكد أنه يريد تجاوز ذلك الحادث والفوز من جديدة واستعادة قمة البطولة فوق دراجته .. وربما كان ذلك أحد الدوافع التى قادتنى للحديث معه عن موتسارت ومدينته وموسيقاه
ولم تكن سالزبورج فقط المدينة التى ولد فيها موتسارت .. إنما أيضا المدينة التى شهدت حكاية وحياة ماريا التى كانت راهبة فى أحد أديرة سالزبورج .. وتضطر ماريا للخروج من الدير لترعى سبعة أطفال ماتت أمهم فاستعان بها والدهم الضابط البحرى جورج فوت تراب .. أب قاس وعنيف وصارم منع أطفاله من اللعب أو الغناء .. وتبدأ ماريا اصطحاب الأطفال فى جولات فى المدينة وحدائقها تعلمهم الغناء وحب الموسيقى .. ويفاجأ جورج بكل ذلك فيثور ويغضب مطالبا ماريا بالخروج من بيته والعودة إلى الدير لكن تعلق أطفاله بها يجبرهم على الاستسلام .. وتبقى ماريا ويقع جورج فى حبها .. وحين تبدأ الحرب العالمية الثانية .. يرفض جورج رفع العلم النازى فوق بيته ويقرر الهروب مع أطفاله وماريا ويختبىء معهم فى الدير حتى نهاية الحرب ليمشى الجميع سيرا على الأقدام إلى سويسرا ليبدأوا هناك حياة جديدة فيها الحرية والحب والموسيقى والغناء .. وهى الحكاية التى تحولت فى 1965 إلى فيلم بعنوان صوت الموسيقى .. وقامت جولى اندروز مع كريستوفر بلامر ببطولة الفيلم الذى كتبه إرنست ليمان وأخرجه روبرت وايز .. وأصبح من كلاسيكيات السينما العالمية وأشهر وأهم وأجمل فيلم عن الموسيقى فى كل تاريخ السينما .. وفاز بخمس جوائز أوسكار .. وحفظ كثيرون فى العالم ورددوا أغانيه مثل أغنية دو رى مى وغيرها حتى إن لم يعرفوا أنها أغانى فيلم صوت الموسيقى وترتبط بمدينة سالزبورج
ولم يقتنع أى من أعضاء فريق روثمانز هوندا ويقبل مشاركتى فى الجولات التى قمت بها سواء لبيت موتسارت .. أو للأماكن الحقيقية التى شهدت تصوير فيلم صوت الموسيقى مثل حدائق ميرابل والنافورة الجميلة وسطها المحاطة بأربع تماثيل ترمز للنار والهواء والماء والأرض .. وأيضا قصر هلبرن ودير نونبرج وبحيرة ولفجانج .. وأجمل ما فى مدينة سالزبورج هو عربات تجرها الخيول فى ميدان ريزدانس فى قلب المدينة يمكن استئجارها لجولة داخل سالزبورج حيث يقوم سائق العربة بشرح تاريخ وحكايات كل مبنى وميدان وقلعة تمر العربة أمامهم وبينهم .. وكان الفارق هائلا بين سرعة عربة تجرها الخيول وتسير على مهل برومانسية زمن قديم وسرعة جنونية للدراجات النارية وأبطالها فى تدريباتهم ثم سباقاتهم .. وحاولت طيلة أيامى فى سالزبورج الربط بين الرياضة والموسيقى .. وهناك دراسة كبرى لليونسكو أكدت أن المصريين القدماء كانوا أول من مزج الرياضة بالموسيقى فى احتفالاتهم على ضفاف النيل .. وحين بدأ الإغريق ألعابهم الأوليمبية القديمة أقاموا مسابقات موسيقية تماما مثل المسابقات الرياضية.. وكان تقليدا تمت المحافظة عليه حين بدأت الألعاب الأوليمبية فى العصر الحديث .. واستمرت المسابقات الموسيقية الأوليمبية من دورة استكهولم 1912 حتى دورة لندن 1948 واختفت بعدها .. وأكد المعهد الأمريكى للموسيقى العلاقة الوثيقة بين الموسيقى والرياضة .. وكيف تساعد الموسيقى الرياضيين للوصول إلى قمة التوافق الجسدى النفسى .. ورغم ذلك .. ظلت الموسيقى غائبة طيلة أيام وليالى بطولة العالم للدراجات النارية رغم أنها تقام فى مدينة موتسارت .. ليس لأن هؤلاء الأبطال يكرهون موتسارت أو الموسيقى .. ولكن تبقى لكل إنسان موسيقاه الخاصة به .. وليس من حق أى أحد أن يفرض ذوقه الموسيقى الخاص على الآخرين تماما مثلما ليس من حق أحد فرض أفكاره وأراءه على أى أحد آخر
ورغم كل ذلك .. نجحت سالزبورج فى ان تفرض موتسارت وموسيقاه على الجميع .. ففى الحفل الختامى للبطولة .. كان الفائزون يصعدون للمنصة لاستلام جوائزهم على إيقاع موسيقى موتسارت .. وعاد اهل سالزبورج الحاضرين لطبيعتهم وحبهم وتعلقهم بموتسارت بعد أيام كان فيها صراخ وصخب وضجيج الدراجات لا يسمحون بوجود اى موسيقى أخرى حتى لو كانت لموتسارت
وقبل الرحيل عن سالزبورج .. لم تخل حواراتى الأخيرة مع أبطال فريق روثمانز هوندا والفرق الأخرى أيضا .. سوزوكى وياماها وإيريليا وروبرتس وأوجوستينى .. من الإشارة للموسيقى وموتسارت .. واكتفى معظمهم بالابتسامات دون تعليق .. فقد كانوا ممن أصبح الموتوسيكلات وحدها اختصارا لحياتهم وكل أحلامهم وطموحاتهم .. لا يهتمون إلا بأخبارها وحكاياتها وبطولاتها حتى لو كانوا يسابقون بها عقارب ساعاتهم فى مدينة تعشق الموسيقى وتعيش بها ومعها كل أيامها ولياليها.
من كتاب بلاد على ورق