الطريق
جريدة الطريق

من أرض الحكمة إلى آفاق النهضة.. ندوة فكرية في السفارة اليمنية بالقاهرة تبحث دور القيم الدينية في بناء الأوطان

-

في مشهد ثقافي وإنساني مميز، نظّمت السفارة اليمنية بالقاهرة مساء الخميس 29 مايو 2025، ندوة فكرية بعنوان: "من أرض الحكمة إلى آفاق النهضة: دور القيم الدينية في بناء الأوطان"، استقبل فيها دولة السفير خالد بحاح، السفير اليمني بالقاهرة فضيلة الحبيب علي الجفري، رئيس مجلس أمناء مؤسسة طابة وبحضور نخبة من الأكاديميين والإعلاميين والدبلوماسيين، وبحضور نوعي من أبناء الجالية اليمنية، وأدار اللقاء الإعلامي محمد بافضل.

وفي ختام الندوة، تم توقيع بروتوكول تعاون رسمي بين مؤسسة طابة والسفارة اليمنية بالقاهرة، بهدف تطوير مبادرات معرفية وتربوية مشتركة تخدم وتعزز خطاب التعايش والحكمة في الفضاء العام.

افتتاح اللقاء: دور الدبلوماسية الثقافية

افتتح السفير خالد بحاح اللقاء بكلمة أكد فيها أن المنطقة تمر بمرحلة حساسة تشهد استغلال الدين لأغراض سياسية، داعيًا إلى تحالفات معرفية جديدة تُفعّل الدبلوماسية العامة وتسهم في بناء الإنسان وتحصينه من التيه والانقسام.

وأوضح بحاح أن الحرب الفكرية اليوم أشد خطورة من النزاعات التقليدية، مطالبًا بتفعيل الشراكات بين المؤسسات الفكرية والجهات الرسمية لتقديم خطاب عقلاني ومتوازن يستند إلى قيم الحكمة والانفتاح.

وفي مستهل كلمته، عبر الحبيب علي الجفري على أهمية هذا اللقاء باعتباره تلاقحا للأفكار نظرا للتشظي والسرعة والإغراق في المعلومات، فلم يعد التحدي في جمع المعلومات بل في تحليلها لوفرتها، وأكد الجفري أن عصر التسارع يتطلب تجاوز التحليل إلى التفعيل. وأضاف: "تحدياتنا تجاوزت جمع وتحليل المعلومات، فنحن الآن أمام امتحان القدرة على تحويل القيم إلى سلوك ومبادرات حقيقية".

ونبه الجفري إلى أنه من الرغم من الفرص العظيمة التي يتيحها الذكاء الاصطناعي إلا أننا بحاجة إلى حسن إعداد الجيل الناشئ للاستفادة منه مع تجنب الخضوع لمرجعيات آلية لا إنسانية ما لم يتم توجيه التربية والوعي من الآن. وأكمل "نحن نعلم أن الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى تغذية من جانبنا لكن المشكلة أن الأجيال التي ستتربى على الذكاء الاصطناعي سينظر إلى الذكاء الاصطناعي نظرة المرجعية الكلية".

الحكمة اليمانية: من الميراث إلى المشروع

استند الجفري إلى الحديث النبوي الشريف: "الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفقه يماني"، مؤكدا أن الحكمة تتوسط بين الإيمان والفهم، ووضح أن الإيمان هو أمر قلبي ينتج عنه قناعات وسلوك وكل ما قوي تحول لسلوك. والفقه هو الفهم وهو الناتج على جانبين جانب ما ورائي وهي القناعات الميتافزيقية وأثرها على الإنسان أو رفضها. والفهم يعتمد على عنصر ثاني وهو حسن قراءة الواقع وربطه بالتاريخ والتطلع إلى المستقبل. وأكد الحبيب أن الأصل في الحكمة أنها تستلزم الانضباط، وحسن التأمل، والتوازن بين الإقدام والإحجام.

وأوضح أن العودة إلى القيم اليمانية الأصيلة ليست دعوة عاطفية، بل مدخل حضاري لبناء مشروع نهضوي حقيقي، مشيرًا إلى أن الحكمة قيمة عملية "لا تنهض إلا بالتروي والنظر والوعي العميق".

خطاب شجاع في مواجهة التطرف: "ليست أزمة دينية بل نفسية"

في تحليل جذري، أكد الجفري أن ظاهرة التطرف ليست بالأساس دينية، بل نفسية، تسعى لتبرير نفسها بأطر فكرية. وأوضح أن التطرف موجود في جميع الأديان والإيديولوجيات، وأن استغلاله سياسيًا واجتماعيًا أدى إلى تفكيك المجتمعات.

كما دعا إلى الشجاعة في الخطاب الشرعي، مطالبًا علماء الدين السنة والشيعة على السواء، بأن يرفضوا صراحةً تكفير الآخر من متطرفي طائفتهم، لا أن يكتفوا بانتقاد المتطرفين من خصومهم.

الشباب: الانتقال من التنظير عليهم إلى الحوار معهم

توقف الحبيب طويلا عند محور الشباب، محذرًا من الاكتفاء بالكلام عنهم دون الاستماع إليهم. وقال: "أضعت 15 سنة من عمري أتكلم عن الشباب، ثم أدركت أنني لم أتكلم معهم… بل حتى الآباء لا يعرفون أبناءهم".

ودعا إلى تبني خطاب حواري إنساني مع الشباب، والانتباه إلى أن الفوارق بين الأجيال ستصبح أسرع وأعمق من ذي قبل. وأكمل الحبيب موضحا أن آفاق النهضة تكون بالتركيز على جيل الشباب، وأن نكف عن الكلام عنهم وننتقل إلى الكلام معهم.

مناهضة الطائفية: رفض شرعنة الصراع

في ردّه على مداخلات الحضور حول الانقسامات المذهبية، شدد الجفري على أن الاختلافات العقائدية ليست سبب النزاعات بل أداة يتم توظيفها في صراعات سياسية قذرة، موضحًا: "نحن لا نعاني من خلافات دينية بقدر ما نعاني من توظيفها كوسيلة لإدارة الصراع… وهذه مسؤولية الدولة، ولكن أيضًا مسؤولية الخطاب الديني".

كما أعاد التأكيد على أن العدالة، والرحمة، والإنسانية، وحسن الظن، هي القيم الكفيلة بإعادة البناء النفسي والاجتماعي للأوطان.

أصوات من القاعة: الشباب، والمرأة، والمثقفون

شهدت الندوة مداخلات حيوية، تنوعت بين تساؤلات عن دور الدين في الحروب، ومطالب بتحصين الشباب من الإلحاد، وتحذيرات من الفساد الأخلاقي، وأخرى عن مأساة عدن ودور المرأة، ونداء لإنتاج مشروع انتقالي ينقذ اليمن من الانهيار. وأجاب الحبيب موجها كلامه إلى جيل الشباب "إذا نحن عجزنا عن ان نعمل على تغيير تجنون ثماره، اعملوا أنتم على تغيير أولادكم يجنوا ثماره". وأكمل "صدقوني هذا الكلام ليس محبطا. بل هو الحقيقة.

توصيات ختامية: بناء النواة من داخل الجالية

اختتم الحبيب علي الجفري الندوة بتوصية واضحة قائلا: "لن نصنع دولة من فوق… الدولة تبدأ من الإنسان. فلنبدأ ببناء نواة من داخل الجالية اليمنية في مصر. نموذج يحتضن التنوع، يحترم الخلاف، ويؤمن بالحب والرحمة كأدوات لبناء الوطن".

كما دعا إلى إطلاق سلسلة لقاءات حوارية، وتأسيس مشاريع معرفية وإعلامية يقودها الشباب، تساهم في تعزيز القيم ونشر الوعي بعيدًا عن الحزبية والانقسام.

وفي الختام،

جاء هذا اللقاء ليؤكد أن الحكمة اليمانية ليست مجرد إرث ثقافي، بل دعوة لمشروع بناء الإنسان في زمن الانهيار، وأن ما نحتاجه اليوم ليس رجال دين يتحدثون من أبراج عاجية، بل من يذهبون إلى الناس، يسمعونهم، ويحملون عنهم مشقة الطريق نحو وطن يستحق الحياة.