شحاته زكريا يكتب من الدعم إلى الإنتاج.. كيف نبني اقتصادًا حقيقيًا؟

في كل لحظة حرجة تمر بها الدولة يعود السؤال الأبدي: ما الاقتصاد الذي نريده؟ هل هو اقتصاد الدعم والاستهلاك أم اقتصاد الإنتاج والتصدير؟ وبين شعارات العدالة الاجتماعية ومتطلبات التنمية تتوه الأولويات ويُصاب الوعي الجمعي بحالة من التردد بين ما اعتاد عليه وما ينبغي أن يسير نحوه.
لقد ظلّ الدعم بشكله التقليدي عنوانا للسياسات الاقتصادية لعقود يحمل نية نبيلة في حماية الفقراء لكنه في جوهره تحول تدريجيا إلى أداة تأجيل للمواجهة ومن ثمَّ إلى عبء على هيكل الدولة الاقتصادي. دعم السلع دعم الطاقة دعم التعليم والصحة... لكن من دون أن يكون ذلك مقترنا بإصلاح هيكلي يعزز الإنتاجية لا يُصبح الدعم سوى مسكن مؤقت ينتهي مفعوله سريعًا.
التحول من "دولة الدعم" إلى "دولة الإنتاج" لا يعني التخلي عن العدالة الاجتماعية بل على العكس تمامًا هو تعزيز لها في صورتها الأعمق. لأن العدالة الحقيقية لا تُقاس بكم الدعم الممنوح بل بقدرة المواطن على أن يُنتج ويشارك ويعتمد على ذاته ويجد فرصة عادلة في بيئة اقتصادية شفافة وتنافسية.
لكن بناء اقتصاد إنتاجي لا يبدأ بإلغاء الدعم فقط بل بإعادة صياغة العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن. فالدولة مطالبة بإتاحة بيئة جاذبة للاستثمار وبنية تحتية ذكية وتعليم فني وصناعي متطور وسياسات حوافز تصنع سوقا حقيقية لا مجرّد دائرة مغلقة من الاستهلاك المحلي.
إن المشكلة ليست في الدعم كفكرة بل في انزلاقه إلى دائرة التسيير لا التمكين حتى صار البعض يختزل حقوقه الوطنية في كرتونة تموين أو سعر وقود مدعوم. وهنا مكمن الخطر؛ أن يتحول الدعم إلى ثقافة، لا سياسة وقتية.
الدول التي اختارت طريق الإنتاج – مثل الهند وتركيا وفيتنام – لم تبدأ بالغاء الدعم بل بدأت بإعادة توجيهه نحو دعم الصناعة، والزراعة، والتعليم والتكنولوجيا. فالدعم الذكي لا يُلغى، بل يُعاد تخصيصه من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن الريع إلى القيمة المضافة.
في الحالة المصرية لدينا فرصة نادرة الآن مع البنية التحتية التي تم إنجازها في السنوات الأخيرة ومع توافر الإرادة السياسية لإصلاح حقيقي، ومع استعداد شرائح واسعة من الشباب للانخراط في المشروعات الصغيرة والمتوسطة، يبقى التحدي الأكبر هو كيف نخلق مناخًا إنتاجيًا يحفّز هذه الطاقة الكامنة.
المطلوب ليس فقط إصلاحًا اقتصاديًا من فوق بل إصلاحًا في الثقافة الاقتصادية العامة على الإعلام أن يلعب دورًا في نشر مفهوم "المنتِج لا المدعوم"، وعلى التعليم أن يرسخ قيمة "العمل والابتكار لا الاتكالية"، وعلى السياسات أن تكفّ عن معاقبة من يعمل، وتكافئ من يضيف قيمة حقيقية.
نحتاج إلى تشريعات مرنة وبيروقراطية ذكية وأسواق تنافسية، ونظام ضريبي عادل، ومؤسسات مالية تدعم الأفكار الجديدة. نحتاج إلى دولة تشجّع المواطن على أن يكون شريكًا في الناتج القومي، لا مجرد مستهلك في طابور الدعم.
ربما يكون التحول مؤلمًا في البداية وربما يصطدم بمقاومة من قِبل أصحاب المصالح القديمة أو من اعتادوا ثقافة الانتظار لكن لا اقتصاد ينمو دون مخاطرة ولا تنمية حقيقية دون إنتاج.
في النهاية فإن أقوى دعم يمكن أن تقدمه الدولة لمواطنيها، هو أن تخلق لهم فرصة إنتاج حقيقية. حينها لن نحتاج إلى دعم يُمنح من أعلى بل إلى عائد يُنتج من الجميع.