الطريق
جريدة الطريق

رسالة إلى قارئ مجهول.. الصحافة فين؟

-

عزيزي قارئ الصحف الورقية:

أبعث إليك بسلامي وقبلاتي وأشواقي، ولا أعلم أين أنت الآن.. هل مازلت على قيد الحياة أم غادرت الحياة الدنيا؟.. أين تسكن الآن؟ وماذا تقرأ؟ وهل مازلت تقرأ؟ ولمن تقرأ؟ وهل تجد في الصحف اليومية والأسبوعية والمجلات الشهرية ما يُقرأ؟. 

أظن أنه قد آن الأوان أن نعتذر لك، فقد وقفت إلى جوارنا كثيرًا، لكننا أهملناك سواء بتقصيرنا أو بقلة حيلتنا وعدم قدرتنا على التعبير عنك وعن همومك، وأحزانك، وأحلامك، ولم نعد صوتك، بل صرنا صدى صوت لا تريد أن تسمعه.

عزيزي القارئ:

أعلم أنك وقفت معنا دهرًا، وساندتنا مرارًا، وتحملت محتوى لا يليق بك كثيرًا، وعانيت ونحن عانينا معك، ولم نعد نستطيع أن نرضيك، ونخشى أن تهجرنا، وليس لنا سوى دعمك لنا، وحبك لرائحة حبر المطابع حتى لو كنت تستخدمه لقلي البطاطس أو تحمل فيه الطعمية أو تفرشه على الترابيزة بعد أن تقرأه، لكنك أيضًا مازلت تحمل بعض صحفنا القديمة، وبعض المقالات التي أحببتها، وارتبطت بمن كتبوها، وشعرت أنهم قد كتبوها لك وحدك.

عزيزي القارئ: 

أرجو ألا تمل من رسالتي، فليس لنا سوى بعضنا البعض، حملنا همومك لسنوات طويلة وطويلة جدا، ودفعنا ثمنًا باهظًا لوقوفنا معك، ولنصرك، وذهبنا إلى ساحات المحاكم حينًا، وإلى غياهب السجون أحيانًا، وبعضنا مات دفاعًا عن كلمة حق تصل إليك، ولعلك الآن تذكر عشرات القضايا التي كنت تتابعها خوفًا على جورنالك وكاتبك المفضل.

وأذكر أنك كنت تشتري أكثر من نسخة من نفس الجورنال حبًا في دعمه، وأنك يومًا ما علقت بعض الصفحات على جدران بيتك، إما محبة في كاتب بعينه، وإما لتسد بها شرخًا في الحائط.

ومازلت أذكر اتصالاتك التي كانت تنهال على الجريدة لتقول لنا رأيك في العدد الجديد أو في قصة صحفية أقامت الدنيا، وتدعمنا بقروشك التي صارت جنيهات.

عزيزي القارئ:

هل مازلت تذكر أنك كنت ترفع صحفنا في مظاهراتك، ومناظراتك، وفي وجه مديريك، وكنت تأتي إلينا على سلالم نقابتنا التي كانت تتسع للجميع، وتنصر كل المقهورين دون استثناء ودون تمييز. 

هل مازلت تذكر هتافك الشهير في مدرجات استاد القاهرة «الصحافة فين؟»، فلم تقل يومًا الإذاعة فين أو التلفزيون فين؟، لأنك تعرف أن الصحافة الورقية وحدها هي التي تفضح الفساد وتأتي لك بحقك وتقف معك في معاركك، وتدفع الثمن راضية بدورها.

عزيزي القارئ:

حالنا الآن لا يخفى عليك، وأنت أعلم منا بما يجري حولك؛ لكننا نطمع أن تعود إلينا وأن نعود إليك، ورسالتي إليك ليست رثاء لحال الصحافة وحالنا، وليست محاولة لاستجداء عاطفة، بل رسالة بين شريكين في مشروع واحد تفرقت بهما السُبل، وظن البعض أن النهاية قادمة لا محالة، وأنها مسألة وقت لا أكثر، وأن علينا الآن - لا غدًا - أن نجهز جنازة تليق بقدر صاحبة الجلالة، وندعو لها كل محبيها، ونعلق صور صناعها وأفضل أعدادها في ميدان الحرية.

لكنها يا عزيزي ليست أولى الأزمات وليست أصعبها، فهل تعلم عزيزي القارئ أن مصر بعد الثورة العرابية بقيت أكثر من عشر سنوات بلا صحافة حقيقية، ولم تعد بها سوى صحيفتين فقط، وصارت مهنة الصحافة تهمة، والصحفي مطاردًا، ولكن بعد ذلك عاودت صاحبة الجلالة الصمود لسنوات، ثم خفت صوتها مرة أخرى مع الحرب العالمية الأولى لمدة خمس سنوات حتى عادت ونهضت، وتصدرت المشهد حتى صار الصحفي وزيرًا للتعليم والإعلام والثقافة ورئيسًا لمجلس الشيوخ، وحتى عندما فقد الناس إيمانهم بالصحف بعد هزيمة ٥ يونيو، وهبط توزيع الصحيفة الواحدة من 60 ألف نسخة إلى 6 آلاف نسخة.

ويومها هجر البعض الصحف بضعة أشهر، والبعض الآخر هجرها لسنوات؛ لكن الجميع عاد إليها من جديد حين عادت إليها مصداقيتها، وخضنا معًا أعظم معاركنا على الجبهة في ٦ أكتوبر ١٩٧٣، وقفز توزيع الصحف كما لم يحدث من قبل، وزادت أطنان الورق المستوردة لطباعة الصحف، ولعلك عزيزي القارئ مازلت تحتفظ في بيتك بصحيفة تحمل نبأ العبور أو رأيتها في سور الأزبكية ووقفت أمامها وقلت: الله يمسينا بالخير.

وختامًا يا عزيزي:

لا أملك جوابًا نهائيًا، ولا قولًا فصلًا، ولا أستطيع الجزم بأن الصحافة الورقية ستعود لك أقوى مما عهدتها أو ستذهب وتختفي يومًا بعد يوم حتى تندثر، وتصبح مجرد ذكرى عصر مضى؛ لكن ما أؤمن به أنه لا يمكن لمهنة امتد عمرها لأكثر من ٢٠٠ سنة، قضت أغلبها على خط النار تدافع عن الحق، والعدل، والتنوير، وتنشر الجمال، وتهاجم القبح، وتنتصر لقضايا الوطن في مواجهة المحتل الأجنبي، وتقف مع البسطاء في مواجهة رؤساء حكومات لم يعد أحد يذكرهم، لكن من وقفوا أمامهم مازلنا نذكر أسماءهم، ودخلت معارك دامية لسنوات طويلة جدًا مع الوسائل الأحدث التي تعاقبت عليها، ولم تستطع وسيلة أخرى أن تقضي عليها أو تحل محلها، وتؤدي دورها، فهل تموت الآن بهذه السهولة؟!.

لا أظن.. وليس كل الظن إثمًا!.