الطريق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 12:19 صـ 20 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

مادبا الأردنية: ”عاصمة الفسيفساء” أقدم خارطة على وجه الأرض

نقل الفن للأجيال الجديدة
نقل الفن للأجيال الجديدة

ليس مستغرباً أن يمنح علماء الآثار والمؤرخون مدينة مادبا الأردنية لقب "عاصمة الفسيفساء العالمية": كيف لا وهي موطن أقدم خارطة على وجه الأرض، يعود إنشاؤها إلى عام 560م، وهي جزء من أرضية فسيفسائية في كنيسة "سانت جورج" التاريخية العائد بناؤها للعصر البيزنطي، وتصف الخريطة تضاريس ومعالم بلاد الشام بما فيها الأردن وفلسطين ومصر.

أما الاهتمام الرسمي والشعبي في الأردن بالحفاظ على فن الفسيفساء، فجاء على شكل إنشاء معهد متخصص بتعليم فن وترميم الفسيفساء وهو "معهد مادبا لفن الفسيفساء والترميم"، ليصبح الآن المعهد الوحيد في الشرق الأوسط الذي يمنح درجة الدبلوم (عامين دراسيّين) في مجال إنتاج وترميم الفسيفساء، وقد بدأ باستقبال الفوج الأول من طلبته عام 2007.

نقل الفن للأجيال الجديدة

داخل المعهد ومن دون ريشة وألوان تحوّل سلوى محمد مجموعة من الحجارة ذات الألوان الطبيعية، إلى لوحة تجسّد مسجد قبة الصخرة، محاطاً بعدد من أشجار الزيتون. فالفن الذي تخطو خطواتها الأولى نحو تعلّمه واحترافه فريد من نوعه، وقلة ممن يمتلكون ذائقة إبداعية وخيالاً فنياً راقياً، هم القادرون على اتقانه كما سلوى، التي تدرس صناعة الفسيفساء منذ عام.

تقول سلوى إن حبها للفن بشكل عام وشغفها بتعلّم فن الفسيفساء منذ الصغر، هو ما دفعها للالتحاق بمعهد الفسيفساء، لتعلّم الأسس الصحيحة وتاريخ هذا الفن الذي يترك لديها شعوراً بالفخر في كل مرة تغوص فيها بين الحجارة لتنتج لوحة فسيفسائية.

وأشارت إلى أن حبّها للفسيفساء استمدّته من والدها الذي يمتهن هذا الفن منذ أكثر من 30 عاماً، ويمتلك "بازاراً" في مدينة مادبا لبيع أعماله وأعمال غيره، مؤكدة أنها لا تريد فحسب المحافظة على إرث والدها من خلال تعلّم فن الفسيفساء، بل لحفظ إرث تاريخي نادر تتميّز به مادبا بشكل خاص والأردن بشكل عام.

وتضيف: "بعد أن نجحت بالثانوية العامة كان بإمكاني دراسة أي تخصص أريده من المساقات الأدبية في الجامعة، إلا أنني قررت رغم معارضة والدتي أن أتعلّم وأمتهن أيضاً فن الفسيفساء، لكونه فناً يتطلّب مهارات خاصة كنت على الدوام أشعر بأني أمتلكها".

أما حازم سنيد فقد كانت رغبته أن يصبح متخصصاً بترميم اللوحات والأرضيات الفسيفسائية دافعه الأول للدراسة بمعهد الفسيفساء، معتبراً أن هذا يتيح له التعامل مع الأعمال الفسيفسائية التاريخية الأصلية بشكل مباشر، أو التطبيق على أعمال طبق الأصل، مما يرفع من مستوى في ترميم الفسيفساء.

ويقول حازم الذي بدأ عامه الدراسي الأول في المعهد، إنه يطمح لأن يصبح مرمم فسيفساء محترفاً ومعتمداً في المستقبل، وأن يكون "جزءاً من الاكتشافات التاريخية لهذا الفن داخل الأردن وخارجه"، مضيفاً "أعتقد أن محافظة مادبا وبعض مناطق المملكة مليئة بالآثار التاريخية المتضمّنة لوحات وأرضيات وجداريات فسيفسائية مهمة، وقادرة على منحها صورة للأمم والحضارات التي استوطنت أو عبرت الأردن".

لا ينكر حازم سعيه لضمان مستقبل مالي جيد عبر دراسته، خاصة وأن فن صناعة الفسيفساء تدر على محترفها دخلاً جيداً، لأن "صعوبة إعداد أعمال فنية فسيفسائية ترفع من قيمتها المالية، وهي مرغوبة جداً من قبل السياح، أو المحبين لتزيين منازلهم أو مكاتبهم بهذا النوع من الرسومات المميّزة".

مؤخراً، وبأيدي طلبة المعهد الحاليين والسابقين، تمّت صناعة أكبر جدارية فسيفسائية في العالم، بطول 30 متراً، وعرض 6 أمتار، وبمساحة إجمالية 180 متراً مربعاً، تضم مليونين و200 ألف قطعة من أحجار البازلت والرخام والغرانيت، وتجسّد في تفاصيلها ما يعرف بـ"الطريق الملوكي" الذي يعد أحد أقدم وأهم الطرق التجارية في منطقة الشرق الأوسط، ويبدأ من ضواحي القاهرة في مصر، ويمتد على "طول شبه جزيرة سيناء حتى يصل إلى مدينة العقبة الساحلية، وتشمل أيضاً عمّان ودمشق ونهر الفرات في سوريا".

فنّ الفسيفساء علامة مميّزة للمدينة

منذ زمن بعيد كان فن الفسيفساء بكل تفاصيله وأشكاله وقوالبه محل اهتمام شعبي ورسمي في الأردن، وكان هناك تركيز على أهمية نقل مهارات وأسرار الفسيفساء للأجيال الجيدة كما وصل لهم من الأقوام السابقة، وفق ما يراه عميد "معهد مادبا لفن الفسيفساء والترميم" أحمد العمايرة، الذي شدّد على أن مادبا "يجب أن تبقى علامة فارقة في تاريخ وحاضر الفسيفساء حول العالم".

ويوضح العمايرة أن المعهد التابع للحكومة الأردنية ليس ربحياً أو تجارياً، فهو يقبل الراغبين بتعلّم فن الفسيفساء بمنحة دراسية كاملة، يتم تمويلها إما من موازنة المعهد، أو من الجهات الداعمة المحلية والأجنبية، إضافة إلى منحهم فرصة للانخراط في سوق العمل بعد التخرّج، والتسويق لإنتاج طلبة المعهد داخل الأردن وخارجه.

وأضاف العمايرة في مقابلة مع "الميادين الثقافية"، أن المعهد يخرّج سنوياً بين 40 و70 طالباً وطالبة من أبناء مادبا وبقية محافظات الأردن، ويوفّر لهم فرص عمل إما عبر مساعدتهم في إنشاء مشاغل ومعارض خاصة بهم، أو تشغيلهم بمشاريع صيانة وترميم لفترات محدّدة قد تمتد لعدة أشهر.

وقال العمايرة إن: "أنشطة المعهد المتنوّعة والمتعددة كالتدريب ونشر ثقافة إنتاج حرفة الفسيفساء في داخل مادبا وخارجها، لم يساعد الشباب على تحسين دخلهم، بل مثّلت خطوة مهمة في الحفاظ على الطابع الفسيفسائي في المدينة والبلاد".

فسيفساء مادبا كنوز تاريخية

في مادبا ستكتشف أهمية وحجم ما تركته الأمم والحضارات خلال عشرات القرون، والتي وثّقها فنانو الفسيفياء بجداريات وأرضيات تحكي كل واحدة منها قصة عن الإنسان، أو الأحداث في تلك الأزمنة، كما يصف عضو "اتحاد الأثريين العرب"، هاشم الزعبي.

ويؤكد الزعبي أن مادبا بشكلها الحالي قائمة على مدينة كاملة من الفسيفساء، وهذا ما يبرّر أن مادبا كانت مدرسة الفسيفساء في العصور القديمة، حيث "كان غالبية القادة الرومانيين يصبّون تركيزهم على هذا المكان، حتى حوّلوه إلى مدرسة لتعليم الفسيفساء، وهذا ما يبدو جلياً من خلال مئات اللوحات الفسيفسائية التي يمكن أن تراها في أي مكان داخل مدينة مادبا".

وبيّن الزعبي أن الفسيفساء في الأردن وتحديداً في مادبا تم اكتشافها منذ نحو 120 عاماً، الأمر الذي جعل من الاكتشافات الكبيرة مقصداً للدارسين والمؤرخين الباحثين عن معلومات حول شكل الحياة الفكرية والثقافية والاقتصادية والطبيعية، وكذلك أنواع الحيوانات التي استوطنت مادبا عبر العصور، والتي تظهر في الكثير من الرسومات الفسيفسائية.

اقرأ أيضًا: «تجديد الخطاب النقدي التشكيلي» في العدد الأسبوعي من مجلة «مصر المحروسة»

وأضاف "اتحاد الأثريين العرب" أن مادبا تضم الكثير من الكنائس التاريخية المكتشفة، والتي تضم عشرات الأعمال الفسيفسائية، أبرزها كنيسة "العذراء" والتي يعود عمرها لأكثر من 1500 سنة، وتضم رسومات للقادة والكهنة والشخصيات التاريخية البارزة التي عاشت في تلك الحقب الزمنية.