الطريق
جريدة الطريق

قصة قصيرة… بقايا التلاقي

ولاء عمران -

رأيته فجأة واقفا أمامي!

تسمرت قدماي وكدت أفقد توازني حينما تلاقت أعيننا.. لم أكن أتخيل مطلقًا أن أراه بعد كل هذه السنوات. اعترت جسدي قشعريرة حينما اقترب مني وأخذ يتأملني، مد يده ليصافحني، شعرت ببرودة في يديه، لم أميز هل هي برودة الشتاء أم أنها نابعة من داخله!

ظل يتحدث عن أشياء كثيرة، ولم أكن قد خرجت من ذهول المفاجأة، فلم أستوعب حديثه، اقترح أن نجلس في مكان ما، وافقت دون تفكير لا أعلم لماذا! كان دائمًا غائبًا عن عيني حاضرًا في قلبي وفي فكري وفي خيالي، ربما تكون هذه سذاجة، لا أدري فكل ما أعرفه أنني لم ولن أحب غيره!

ذهبنا إلى مكاننا القديم الذي شهد أول لقاء جمعنا معًا، كانت هذه رغبتي، المكان هو المكان بكل تفاصيله، ولكن هناك شيء تغيَّر، نفس الشجرة التي كانت فروعها ممتدة إلى الخارج وكأنها كانت تأبى أن يجلس أحد في ظلها، وكأنها كانت تنتقم منا من كثرة ما جرحناها بحروفنا وتواريخ ميلادنا. كنت أضحك وأقول له ماذا لو كانت فروعها ممتدة هنا ناحيتنا كي نستظل بها ونحتمي من لهيب الشمس ورزاز المطر! رباه كم من الفصول مرت علينا هنا! عشقت معه كل الفصول، الصيف بجفائه.. والشتاء بسخائه.. عشقت كل لحظة كنت فيها معه، وكرهت كل لحظة كان فيها بعيدًا..

ذات يوم كنا في فصل الخريف، كان آخر لقاء بيننا، لم نكن نرتب لذلك ولكنه كان الأخير.. أخبرني أنه سيسافر لكي يكمل حلمنا، سافر ولم يأت وتبخر الحلم الجميل..

ما زلت أتذكر البيت الجميل الذي بنيناه معا في الرمال على شاطئ البحر.. كان رائعًا، كل ركن فيه جزء من حلمنا الكبير، ولكننا لم نعمل للأمواج حسابًا. ودعته على أمل أن ألقاه.. وعدني أنني سأظل في عقله وفي خياله وفي قلبه.. عاهدني ألا يفارقني أبدًا، انتظرت كثيرًا وطال انتظاري، لم يرسل لي خطابا واحدًا يطمئنني! هل نسي الحب الكبير والحلم الجميل؟ اختلقتُ له الأعذار ولكني أدركت الآن أني كنت مخطئة!

كنت أتردد على هذا المكان كثيرًا، فأشعر فيه بأنفاسه، وأشم رائحة دخان سيجارته وأتخيله معي هنا.. نخطط ونرسم مستقبلنا وأحلامنا، كنت أحسب كل شيء وأدرسه جيدًا.. ومعه نسيت أن الشيء الوحيد الذي لا يخضع للحسابات هو القدر!

لا أعلم كم من الوقت مضى وأنا جالسة معه، ولا أعلم هل قلت له هذا الكلام أم كان حديث نفس، انتبهت له وهو يحدثني.. نظرت إليه.. كانت نظرات عينيه باردة تمامًا مثل يديه.. مشاعر غريبة ومتضاربة انتابتني، رفض، وحنين، لم يذكر لي مبررًا واحدًا لغيابه! لم يذكر لي سبب ابتعاده عني.. كان يتحدث كأن شيئا لم يحدث !

يملأ الرفض عقلي ويزيح الحنين، ألهذا الحد كنت باردًا؟! ألهذه الدرجة لم تكن تبالي؟!

لمحت دبلة في إصبعه.. سألته عيناي.. ولكنه لم يعبأ بسؤالهما.. وقتها شعرت بكرامتي التي أهدرتها طوال هذه السنوات وأنا في انتظاره.. نظرت إلى المكان وإلى الشجرة وإلى السماء التي أظلمت فجأة وتلاحم رزاز المطر مع دموع عيني، وكأن السماء كانت تشاركني أحزاني وتبكي من أجلي.. كرهت رجوعه وتمنيت أن لم يأت.

ودعت المكان بغير رجعة.. فالذي تبقى بيننا لم يعد يكفي.. فالذكريات أقوى من الحاضر.. والأمس أكثر نضارة من الغد.. ولا معنى ولا قيمة لأن نُشيِّع معًا حبًا احتُضر.

للتواصل مع الكاتبة

اقرأ أيضًا: التخفف من هزائم الماضي