الطريق
جريدة الطريق

صديقي محمد رسول الله

حسام مصطفى إبراهيم -

تربّينا على حبِّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وآل البيت منذ الصغر، هذه نظرة عامة وزاوية واسعة، لكن شخصنة الأمور عادة ما تُعطيها بعدًا آخر من التجلّي، وتُورّطنا أكثر في تفاصيل نحتاج إليها أشدَّ الاحتياج في لحظات فارقة من حياتنا.

كانت هناك نقطة تحوّل حقيقية وقعت في علاقتي بالرسول، عندما أدركتُ -بشكل عملي- قيمةَ الصلاة عليه وقت الضيق والكرب وإطباق الدنيا على أنفاسي، توسلًا بمكانته العَليّة عند رب العرش العظيم، الذي أكرمه ورفع قدره فوق سائر عباده، فجعل الصلاة عليه وطلب شفاعته من صميم الدين وأداء العبادات.

وكنتُ دائمًا ما أرى النبي في صورة شيخ أربعيني قوي، ذي لحية كثة، وابتسامة رحيمة لا تغادر شفتيه في أشد المواقف، فاتحًا ذراعيه مُرحِّبا على الدوام، ينظر إلى تصرفاتي بعتاب لكن دون يأس، وهو يُدرك أنني يومًا ما سأعود إلى الحق، وإن طال بي المسير في أرض التجربة والخبرة.

ثم من كل تاريخه المهيب، ومواطن عظمته التي سارت بها الشعراء، وكفاحه المرير لتحرير العقول وتغيير مصير الإنسانية جمعاء، وتحمله ما لا يخطر على قلب بشر، كنت أتوقف أمام لمحاتٍ بعينها، تأسرني أكثر من غيرها، ليستْ في مواطن الحرب والقوة والسلطان والتغيير الجذري، إنما في مواطن الضعف البشري والمواساة وجبران الخواطر والطبطبة، كموقفه من الطفل الصغير أبي عمير الذي مات عصفوره فجلس النبي جواره يواسيه ويضحكه ويسلّيه!

نبي يحمل على عاتقه مصير أمة، يلتفت وسط كل هذا لطفل عمره ثلاث سنوات ويواسيه لفقده عصفورًا!

ثم يوم فتح مكة، هذا الأمر الجلل المفصلي الذي سيغيّر وجه الأرض، فرش النبي الرحيم عباءته لمسنّة من صديقات السيدة خديجة، رآها مقبلة عليه، فاصطفاها لنفسه وظل يتحدث إليها زمنا عن مآثر الراحلة الغالية!

نبي لا ينسى الفضل ولا يتنكر للمعروف ويتذكر الأحياء والأموات بالخير ويتلطف مع الصغير والكبير!

وذلك الرجل الذي يُسرع الخطى إليه فرحًا مستبشرًا قائلًا: "يا رسول الله جئت أبايعك على الهجرة والجهاد، وتركت أبوي يبكيان"، فيقول له عليه الصلاة والسلام: "ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما".

نبي يقدم الأب والأم على الجهاد والهجرة، ويمنح للمقصّرين خريطة إصلاح ما أفسدوا، ويعيد ترتيب الأولويات!

ثم ذلك الأعرابي الذي وقف يوما أمامه، يسأله مزيدًا من العطاء قائلا بغلظة: اعدل يا محمد.

فلم يقل له النبي: "اقف مكانك، إنت بتكلم رئيس الجمهورية يا ولد"، ولم يتجاهله تحقيرًا لشأنه واستهانة بأثره، ولم يجلجل فيمن حوله: أنا مندوب العناية الإلهية لانتشالكم من الجهل والفقر والمرض وإدخالكم الجنة، فكيف تجرؤون"، إنما ابتسم في وجهه وقال برفق: "ويحك يا أعرابي من يعدل إن لم أعدل؟".

وعندما كان يصلي، ويتسلّق الحسن –ابن فاطمة وعلي- كتفيه، يطيل في السجود كي لا يزعجه!

وعندما كان يسابق عائشة ويلعب معها، يتركها تسبقه!

وإذا عطش أصحابه، يسقيهم أولا، ثم يشرب!

ولما دخل عليه رجلٌ أصابته رِعدةٌ من هيبته، قال له: "هوّن عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد"!

وعندما اتُهم في شرفه وشرف زوجته في حادثة الإفك، لم يُسخّر الآلة الإعلامية لاحتواء الأزمة، أو التشكيك في دين المنتقدين، أو يجنح للسلم ويطلّق زوجته، إنما –وهو رسول الله- انتظر الفَرج كسواه، وأحسَن إلى عائشة في مرضها، حتى كشف الله الغمة!

وروى عبد الله بن عمر: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته فرأينا حُمرة -طائر صغير كالعصفور- معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش -ترفرف بجناحيها من اللوعة- فجاء النبي فقال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها"!

والمرة التي رأى فيها بعيرًاٍ قد لصق ظهرُه ببطنه من الجوع وسوء المعاملة، فقال: "اتقوا الله في هذه البهائم المعجَمة -التي لا تتكلَّم- فاركبوها صالحةً وكُلُوها صالحةً".

فهو -صلى الله عليه وسلم- إنما يُقيم عمود الدين والدنيا أيضًا، للبشرِ ولسائرِ المخلوقات التي تشاركه الحياة، وتقتسم معه مواردَ هذا الكوكب، بل لعلّه -من جانب آخر- يريد توجيه رسالة مبطَّنة مفادها: إذا كان هذا مقدار الرحمة بالحيوان في شريعة الله، فكيف يجب أن تكون رحمة أحدنا بالآخر؟ كيف يجب أن نسيِّر السفينة التي توشك على الوصول إلى مرساها ولمَّا نفهم بعد الغرض الأشمل والأهم من رحلتها؟!

فمحمد رسول الله بالنسبة لي، ليس ذلك المحارب الصنديد وصاحب الرسالة العالمية وإمام الدعاة وصاحب الحلم العالمي بسلام حقيقي يعم العالم على أسس العدل والمساواة فقط، إنما كذلك: هذا الطفل اليتيم الذي أنار الله قلبه، فأبى إلا أن ينير قلوب الآخرين!

الذي رغم سلطته وسطوته لم يبت قط شبعانًا من شيء دنيوي!

الذي سبقتْ رحمتُه غضَبه، وإنسانيتُه مطالَبته بحقه، وتواضُعه مكانَته العظيمة.

صديقي ونبيي وحبيبي -صلى الله عليه وسلم- الذي أرجو شفاعته يوم يحيط بي عملي، وأقف محاصرًا بذنبي على جبل القيامة، فيقول لي بابتسامته الحيية "إن الله غفور رحيم".

اقرأ أيضًا: الزواج ليس الجنس ولا الأمومة!