الطريق
جريدة الطريق

6 سنوات.. وعبد الله لم يمت

الكاتب الصحفي أحمد الضبع
أحمد الضبع -

كنّا تلاميذ في المرحلة الابتدائية، حينما جمعنا القدر بالطفل النبيل عبد الله أحمد كامل غلاب ابن ناظر المدرسة، الذي أحسن تربيته وعلّمه تجارة المحبة فاستثمر فيها الابن وجنى منها أرباح طائلة تحولت- بعد رحيله عن عالمنا في حادث سير أثناء عودته من الجامعة- إلى دعوات صادقة تتمنى لروحه الطاهرة الرحمة والمغفرة.

بدأ عبد الله منذ التقينا لأول مرة في الفصل طفلًا ودودًا جلس معنا في التختة في أثناء الفسحة وأخرج من حقيبته بعض الساندوتشات وأصر بلطف على أن نشاركه- أنا وصديق آخر- الغداء فأخرجنا ما في حقائبنا من طعام مختلف أنواعه، وسرعان ما توسعت دائرة المشاركين في هذه المائدة حتى شملت معظم الصبية وكان ذلك أول عمل جماعي ننظمه في الفصل.

لم تمر أيّام قليلة حتى استطاع هذا الطفل الطيب تكوين صداقات مع عدد ليس بقليل من التلاميذ في مختلف الفصول وراح ينثر المحبة التي أودعها الله في قلبه على كل من حوله، فلا يترك زميل عنّفه أحد المدرسين مثلًا لعدم كتابة الواجب إلا قبل أن يجعله يضحك ويزيل من عليه آثار الحزن. كان ابن نكتة يرفرف بيننا كالفراشة، يلقي "الإفيه" فيتحول الفصل إلى عرض كوميدي بهيج.

كان عبد الله يحتل مساحة خاصة في قلوب أصدقائه فهو الولد الطيب ذو الأخلاق الحميدة الذي لا يتفوه بكلمة تُسبب حرجًا لأحدهم، وحينما ينشأ خلاف بين صديقين تجده يسارع إلى لم الشمل وتلطيف الأجواء، وكأنه رسول المحبة في الفصل.

أتذكر حينما كنّا في حصة الرسم وكان الأستاذ قد شدد قبلها على ضرورة إحضار كراسة جديدة متوعدًا من ينساها، وبالفعل دفعنا الخوف من التوبيخ إلى ابتياع الكراسات ودوّن كل واحد منا اسمه عليها وقبل بدء الحصة المقررة جاء زميل وطلب من عبد الله استعارة كراسته لأنه نسي شراء واحدة في حين أنّ المُدرس سيفتش عليه أولًا لأنه يجلس في التختة التي أمامنا، فوافق عبد الله في الحال وسلمها له.

لكن الصدمة حدثت حينما وجد الأستاذ اسم عبد الله مكتوبًا على غلاف كراسة الرسم فشك في الأمر وسأل صاحبنا بصوت يثير الرعب عن سبب وجود اسم تلميذ آخر، ارتبك الولد ولم يستطع الإجابة خوفًا من أن يتعرض للعقاب، فنادى الأستاذ على صاحب الاسم وسأله عن كراسته، وبدلًا من أن يُخلص نفسه من هذا المأزق ويكشف حقيقة ما جرى؛ فضّل نجاة زميله وقال على نفسه إنّه نسى شراء الكراسة وبرر سبب وجود اسمه عليها بأنه استعارها في وقت سابق وكتب عليها الاسم عن طريق الخطأ.

انتهى الموقف بطرد عبد الله من الحصة بعدما وبخه المُدرس، ولمّا سألته لماذا لم تخبر الأستاذ بأنها كراستك وصاحبنا هو من استعارها منك، قال لي يا أخي جبر الخواطر حلال.. كان هذا هو الدرس الذي تعلمته منه، فلا سعادة تضاهي إزالة انكسار إنسان وجبر خاطره.

وبعد مرور ست سنوات على ذكرى رحيله، ما زال عبد الله يعيش في قلوبنا بمواقفه الخالدة، وبمجرد ذكر اسمه بين الناس حتى تنهال له الدعوات.. فسلامًا طيبًا ووردة على روحك أيها النبيل الذي ما مَرَّ على مُر إلا وحلاه.

للتواصل مع الكاتب على فيسبوك

اقرأ أيضًا: عمرو واكد.. لا نخوة ولا أدب