الطريق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:15 صـ 17 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

من الجريدة الورقية.. موبوتو سيكو.. رئيس بالسحر الأسود!

حكم الكونغو 32 عاماً بالدماء و«الفهلوة» وإذلال رجال السلطة

«موبوتو سيكو»، هو رئيس الكونغو الأسبق.. حافظ على النظام العام فى البلاد بتوفير مدافن غير صحية للمعارضين.. مارس السحر الأسود وكان يستعين بأبالسة الإنس من دول العالم لتثبيت حكمه، حيث كان يؤمن بالسحر إيمانا لا مراء فيه، حتى إن أحد رجال دولته، وهو سفير الكونغو لدى دولة أوروبية، قال إنه «رآه يشرب كأسا من دماء البنى آدمين أمام عينيه»!.

ليحتملنى القارئ، فقصة الرجل تحتاج لمجلدات وتواريخ وأرقام «بالكوم»، والحديث عن مفاسده وخياناته يحتاج لشروحات أطول من أول أيام الدراسة، وليس بضعة أسطر كالتى قد تقرأونها بعد قليل جدا. سأكتفى هنا بالإشارة إلى بعض من ملامح تاريخه الأسود فى كلمات عابرة، بينما تحتفل الكونغو هذه الأيام بتنصيب رئيس جديد للبلاد، هو فيلكس تشيسى كيدى، فى حركة تداول سلمى للسلطة اعتبرها مراقبون أنها «أول انتخابات ديمقراطية فى تاريخ الكونغو».

عطّل الدستور ثم قام بتعديله لمنع مناقشة قرارات الرئيس أو المساس بشخصه

مبدئيا، جاء موبوتو سيكو رئيسا للكونغو بتخطيط مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية عام 1965 وظل كابسا على رقاب العباد حتى عام 1997، ولأن الخيانة كانت طبعا أصيلا فى دماء هذا الرجل، فقد لجأ إلى أساليب شديدة الانحطاط لإذلال أصدقائه المقربين فى السلطة من السفراء والوزراء المحيطين به لأعوام وأعوام، حيث كان يغازل زوجاتهم حتى يجلبهن إلى فراشه، وأنتم تعرفون الباقى طبعا، ثم يعرف منهن نقاط ضعف أزواجهن وفيما يفكرون وكيف يفكرون وفيما يخططون له، وبهذا كان يكسر أصدقاءه قبل أعدائه ويختبر ولاءهم له بنفسه فى فراش الخيانة.

تزوج الرجل من فتاة فى الـ14 من عمرها بينما كان هو فى الـ16، وبعد أن ماتت تزوج شقيقتها التوأم وعشيقته فى الخفاء بعدة أسابيع.. سرق الرئيس الراحل بلاده سرقة منظمة، ونصّب نفسه رئيسا أعلى للجيش ورئيسا أعلى للقضاء ورئيسا أعلى للبلاد قبل ذلك، ثم رئيسا أعلى للأخلاق، ورئيسا أعلى للإعلام. وأظن لو كان هناك مجلس أعلى للحلاقين مؤكد أنه كان سيرأسه أيضا.

فى مشيته فى مرحلة الشباب يبدو مزهوا بنفسه ورئاسته للبلاد، كما بجعة فى بحيرة فيكتوريا، بساق طويلة وعصا رفيعة يتأبطها دوما وطاقية لونها بجلد الفهد فى أغلب الأحيان، ونظارة سوداء أو بنية مستديرة عريضة الإطارات، يمشى مطمئنا بالطبع لأن جميع المدافع والأسلحة محشوة تجاه المعارضين والمدلسين و«أعداء الوطن» كما كان يصفهم، بلا مبالغة من كاتب السطور. ألغى الحياة الحزبية طوال فترة رئاسته الطويلة المضنية إلا من حزب واحد أوحد هو حزبه بالطبع.

 

تواطأ مع بلجيكا وأمريكا لاغتيال لومومبا بتقطيع جسده في سائل حمضي

لومومبا.. من الرئاسة للسجن

ليحتملنى القارئ مرة أخرى، لأننى سأسعى الآن لسرد جوانب من حياته بالتفصيل لعل أحدكم يعتبر أو يتخذ حكمة من سطر هنا أو هناك.

كان «باتريس لومومبا»، أول رئيس للكونغو بعد استقلالها عن الاحتلال البلجيكى، نبيلا فى طباعه وسماته وهيئته، بسيطا فى كلامه، تبدو عليه إمارات الخجل بعض الشىء، وكان مناضلا اشتراكيا، حظى بالتعليم خلال فترة الاستعمار، وفى عام 1960 قفز إلى السلطة بنسبة 90% وهى نسبة أعتقد أنها غير مبالغ فيها قياسا بسيكو الذى كان يحصل عليها دوما بنسبة 100%.. لم لا وقد أحاطته الحركة الوطنية بالدعم ـ لومومبا طبعا وليس سيكو ـ حتى وإن أخفت بلجيكا النتائج وسعت لإسناد الحكم إلى حليفها جوزيف إليو، لكنها فشلت نتيجة للضغط الشعبى، وفى العام نفسه كانت الكونغو قد أعلنت الاستقلال عن بلجيكا.

أقول «استقلت» ولا أقول استقرت؛ ذلك أنها عاشت بالطبع أياما سوداء ربما إلى يومنا هذا، فمن تمرد عسكرى فى الجيش إلى أزمة اقتصادية، إلى ما غير ذلك.

سعى لومومبا للاستقلال الاقتصادى للكونغو، لأن الاستقلال الذى يعقبه الهدوء ليس استقلالا على حد قوله، فالاستقلال الحقيقى هو الذى يحترب لأجله حتى يملك الوطن السيادة على كامل أراضيه. لكن مصالح بلجيكا الاقتصادية لم تترك الفرصة للعمال والمزارعين الكونغوليين بقيادة الزعيم الشعبى لومومبا ليستردوا السيادة على أراضيهم، ولذا رأت بلجيكا أن لومومبا سيقف سدا منيعا أمام مصالحها وطموحاتها فى المنطقة، فسعت لتغذية حركة انفصال واسعة النطاق، واجهها لومومبا بتعبئة الجيش والتيار الوطنى للحرب ضد العدوان البلجيكى، لكن الأخيرة أرسلت عشرة آلاف جندى بالتمام والكمال لتوطيد أركان نظامها الاستعمارى إلى كيسانقاتى معقل الحركة الوطنية فى الشمال عام 1960 لمواجهتها.

قاد موبوتو سيكو، رئيس هيئة الأركان آنذاك، انقلابا ضد لومومبو دبره مع سفير بلجيكا لدى الكونغو وبطلب مباشر من أمريكا ومخابراتها، ودفع به فى السجن ثم دبر له قبرا وقتله رجال الشرطة الكونغولية والبلجيكية فى رحلة موت عبر الغابات بسيارات أمريكية، وتم التخلص من جثة لومومبا هو و3 آخرين من رجال الحكم فى نظامه بتقطيعها إلى قطع صغيرة وإذابتها فى حمض الكبريتيك، وأشرف على هذه المهمة بالذات ضابط شرطة بلجيكى يدعى «جيرارد سويت».

 

الثروات الطبيعية.. لعنة على الكونغو!

للأسف، فكل ما بعد لومومبا النبيل ثلاثة عقود وعامان من الاستبداد والفساد والإتلاف المتعمد لخيرات البلاد، التى كانت تملك رصيدا هائلا من المياه والمعادن والموارد والأراضى المؤهلة للزراعة، إلا أن مواردها الطبيعية كانت لعنة عليها، وفتحت أبواب الاستعمار والصراع بلا توقف منذ القرن الخامس عشر، حتى إن عدد البلجيكيين الذين عملوا بالكونغو حتى عام 1933 بلغ قرابة 10 آلاف موظف بلجيكي و7 آلاف رجل دين مسيحى أوروبى، وبلغ تعداد الأوروبيين المقيمين فى الكونغو سنة 1960 قرابة 100 ألف نسمة.

تقع الكونغو فى وسط قارة إفريقيا، وهى دولة مفتوحة على عدة دول أخرى، أشهرها من الشمال الشرقى السودان ومن الشرق أوغندا وتنزانيا وزامبيا ومن الغرب أنجولا. ويُعتبر باطن أرض هذا البلد الأغنى عالميا بالموارد الطبيعية من الناحية الجيولوجية وعلم المعادن، حيث تمتلك الكونغو احتياطيات هامة من المعادن المختلفة التى تبلغ ما يقارب الـ50 معدنا، منها النحاس والكوبالت والفضة واليورانيوم، ويتميز البلد باحتوائه على كميات هامة من الألماس، إضافة إلى أنه يحتوى على ثانى أهم احتياطى عالمى من النحاس المستكشف على كوكب الأرض ويبلغ 10% و50% من الكوبالت، وتعتبر الموارد المائية الضخمة في البلاد أحد أهم مصادر إنتاج الطاقة الكهرمائية بما يعادل 13% من الإنتاج العالمى.

ولأجل كل هذه الثروات الطبيعية، يردد شعب الكونغو مقولة: «سنكون فى أحسن حال لو لم نكن أغنياء»، حيث جذبت الثروة الهائلة لهذه الأرض الحزينة فى مركز إفريقيا العديد من الأجانب لها، منذ أن رست سفن تجار العبيد فى فم نهر الكونغو منذ قرون مضت، وحملوا تلك السفن بأولئك المساكين عبيداً من الأرض البائسة لبيعهم فى أسواق النخاسة أو لاستغلالهم فى أبشع الصور.

 

ضابط ثم صحفي ثم رئيس

فى هذا البلد شديد الثراء شديد البؤس، ولد موبوتو سيكو فى مدينة ليسالا عام 1930، وكان بلده تحت الاحتلال البلجيكى بالكامل.. ولد الطفل لأب يدعى «ألبريك» ويعمل طباخا لدى حاكم ليسالا، وفى الخامسة من عمره مات والده ورباه جده، وحين بلغ العشرين انضم لجيش الاستعمار البلجيكى، ثم انتقل إلى قيادة جيش الاستعمار فى منطقة «ليبودفى» عام 1953، وبعد رحلة قصيرة فى الجيش تركه واشتغل بالصحافة بعد خمس سنوات ووقتها تعرف على باتريس لومومبا.

عقب استقلال الكونغو، عينه لومومبا وزير الدولة فى الحكومة الجديدة، واستفاد من الخلافات بين السياسيين وكان الوحيد من أتباع لومومبا الذى يمتلك الخبرة العسكرية، لذا تم تعيينه رئيس أركان الجيش الكونغولى، وبدعم مباشر من سفير بلجيكا فى الكونغو آنذاك تم اعتقال لومومبا عام 1960.

تم تشكيل حكومة مؤقتة. ووقف موبوتو أمام كاميرات التلفزيون لأول مرة ليعلن أن «لومومبا مؤيد للشيوعية»، متزلفا بذلك للولايات المتحدة، ثم أمر موبوتو بسجن لومومبا تمهيدا لتصفيته.


خاطب شعبه أمام التلفزيون: «تعلموا أن تطيعوا وأن تغلقوا أفواهكم»

بعد رحلة شاقة من قتل المعارضين وتصفية الطلبة وأنصار لومومبا، نجح «سيكو» فى الوصول لكرسى الحكم عام 1965، حتى إنه فى عام 1969 قمع مظاهرة طلابية بالرصاص ورميت جثث الطلبة فى مقابر جماعية وتم تعليق الدراسة بالجامعة لمدة عام، حتى قال أمام التلفزيون: «تعلموا أن تطيعوا وأن تغلقوا أفواهكم».


فرض على الشعب أسلوباً في الملبس وغيّر اسم الكونغو إلى زائير واسمه من جوزيف إلى «المقاتل المغوار»

اتجه موبوتو سيكو إلى استحداث نظرية سماها «الأصالة»، بإعادة إنتاج تاريخ الإنسان الأسود فى بلده، ففرض على جميع أفراد الشعب أسلوبا فى الملبس تمثل فى ارتداء الرجال أقمصة ملونة فضفاضة، والنساء رداء غير مخيط يتم لفه عند مستوى السرة، وبالطبع غير اسم الكونغو إلى زائير، ثم غير اسمه هو شخصيا من جوزيف ديزيرى إلى موبوتو سيكو كوكو نجابندا وازانبنجا، ومعناه المقاتل المغوار الذى ينتقل من نصر إلى نصر مخلفا النار وراءه!.

 

تعطيل الدستور وحل البرلمان

خلال فترة حكمه، علق موبوتو العمل بالدستور، وحل البرلمان، وألغى الأحزاب والحياة الحزبية وبذلك حرم التعددية باعتبارها «تتناقض مع دواعى الوحدة»، وانتقص من عدد المحافظات إلى 8 فقط بدلا من 21 محافظة، واستعان بالجيش فى إدارة الكونغو، ثم أسس الحركة الشعبية للثورة، وأصبحت الحزب الوحيد البديل لجميع الأحزاب الأخرى.

ثم قام بتعديل الدستور وأصبح ينص فى المادة (33) على أن «الموبوتية» هى أيديولوجيا الحزب الحاكم، حزب الحركة الشعبية للثورة، ويجعل منها مادة للدرس فى الجامعات ويحظر الدستور مناقشة قرارات الرئيس أو المساس بشخصه.


قام بتشكيل فرقة الحرس الرئاسي الخاص وكانت ممتازة التسليح والتدريب وبلغ تعدادها 15 ألف عنصر

قام موبوتو بتشكيل فرقة خاصة به هى الحرس الرئاسى الخاص، وكانت ممتازة التسليح والتدريب ويبلغ تعدادها حوالى 15 ألف عنصر استأجرت منهم المفوضية السامية للاجئين ثلاثة آلاف عنصر لحراسة معسكرات اللاجئين فى شرق زائير، وكانت تدين بالولاء للرئيس لأن عناصرها تنحدر من إقليم ليسالا الاستوائية معقل الرئيس، مما يقلل من احتمال مشاركتها فى قتال من أجل زائير الوطن.

وخلال سنوات حكمه، يقول الدبلوماسى السودانى السابق، الحارث إدريس الحارث: لعب موبوتو بذكاء على الحبل المشدود بين واشنطن وموسكو أيام الحرب الباردة، موظفاً فزّاعة الشيوعية وخطرها فى الاندياح داخل القارة الإفريقية لاستدرار عطف أمريكا فكان حليفها الأصيل. وساعدته فرنسا وبلجيكا والمغرب فى قمع حركة انفصال إقليم كاتنقارشابا الغنى بالنحاس والكوبالت فى السبعينيات والثمانينيات، وأغدقت عليه أمريكا بالسلاح، بينما قامت اسرائيل بتدريب جهازه الأمنى.


نصح المواطنين قائلاً: الفساد مقبول ولكن عليكم أن تسرقوا قليلاً!

ووصفه برنارد كوشنر، وزير الشؤون الإنسانية الفرنسى آنذاك، بأنه عبارة عن حساب بنكى متحرك بقبعة من جلد الفهد، إذ وضع خزانة الدولة تحت تصرفه متاجراً بالماس وثروات بلاده الوافرة ناصحاً شعبه قائلاً «إن الفساد مقبول ولكن عليكم أن تسرقوا قليلاً».

أنشأ «سيكو» قصورا رئاسية شديدة الرفاهية والضخامة، وسمح لزملائه وأعوانه بالحزب الحاكم الرئيسى من قادة الجيش بتحقيق ثراء فاحش على حساب الشعب، ما أدى لتفجر الحروب الأهلية فى زائير، وبلغت أوجها عام 1996.

وقتها كان سيكو الملقب بـ«فهد زائير» قد أصابه الوهن والعجز والاكتئاب والسرطان، فعاد إلى أحد القصور الرئاسية التى شيدها له المعمارى الفرنسى «أوليفييه جاكوب» على مساحة 15 ألف متر مربع فوق تلة عالية، يرقب السحابة والسماء والأرض والزرع فى صمت، بينما ترك البلد فى حالة غليان وفوضى عارمة وأحداث نهب وسلب للمتاجر والبنوك وكل مظاهر البذخ التى خلفها نظامه.

وفى يونيو 1997 قام ما يسمى بتحالف القوات الديمقراطية من أجل تحرير الكونغو، بقيادة لوران كابيلا، بدخول العاصمة كينشاسا، بعد نحو 30 عاما أمضاها كابيلا فى محاولة الوصول للحكم مرة بتأسيس حزب ومرات بقيادة حركات مسلحة، فأعاد تنظيم قواته من القبائل الإفريقية بما يملكه من إمكانيات مالية (بعضها مسروق) ضخمة، واضطر موبوتو للتنحى عن السلطة، ليتركها لكابيلا الذى سيحكم الكونغو نحو 9 سنوات، سيغتال بعدها فى عام 2001 على يد نائب وزير الدفاع «السابق» فى حكومته!.