الطريق
السبت 18 مايو 2024 01:04 مـ 10 ذو القعدة 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

والدي أحمد رجب

أظنه مازال يسمعنى، ويسخر منى، وتعلو ضحكته وهو يتصل بى صباحا، ويجدنى مازلت نائما.
لا أظن أن مثله يمكن أن يفارقنى، فإذا غاب جسده، فاسمه وأثره، وإنسانيته، وإخلاصه، وفنه، لن يغادروا أبدا.
فمازلت أذكر اليوم الأول الذى اتصل بى فيه، وكدت أفقد حاسة النطق؛ لأننى لم أرد عليه!. فقد كنت بعيدا عن التلفون، وتأكدت أنى «نحس»، لكن بعد دقائق وجدت جرس التلفون يضرب من جديد وسمعت صوت ضحكته عبر الهاتف، وحدد لى موعدا لألقاه. ذهبت إليه وأحمل معى صورة واحدة حاول كل من لم يعرفوه تصديرها لنا، وهى أنه رجل عبوس ينتج الضحك ولا يستهلكه، ويتحدث عن البسطاء ولا يقترب منهم!.
وهذه الصورة لم تفارق خيالى، وأنا فى الطريق من بيتى إلى دار أخبار اليوم.
فقد ذهبت إليه وأنا أعرف أن دخول مكتبه «حدث»، والحديث معه «انفراد»، وتسجيل حوار له يدخل ضمن دائرة التسجيلات النادرة، لكن شيطان الصحافة احترق بمجرد أن وقفت عند باب مكتبه.
هناك وجدت عم محمود الزملكاوى فى انتظارى، وهو أول من يقرأ «نص كلمة» قبل أى شخص آخر باعتباره المسئول عن حملها يوميا من مكتب الأستاذ أحمد رجب إلى سكرتير التحرير المسئول عنها.
واستأذن عم محمود الأستاذ فسمح لى بالدخول، وبمجرد أن دخلت وجدته واقفا ليصافحنى بابتسامة لم تفارق وجهه طوال ساعة ونصف الساعة قضيتها فى مكتبه، ووجدت رجلا يجمع بين حكمة الفيلسوف، وخفة دم المضحك، وتواضع العالم، ورؤية المفكر، وشهامة ابن البلد، وعرفت السبب فى الصورة العبثية التى رسمها له من لم يعرفوه!.
فهو رجل يجيد التحكم فى عضلات وجهه، فلا يضحك إلا عندما يكون فى صحبة أصدقائه، ولا يستقبل فى مكتبه إلا من يشعر بصدقه مهما يكن موقعه، فيجلس مع النشال ولا يقابل الوزير، ويصافح الرجل البسيط ولا يلتفت للمسئول الكبير.
وإذا كنت واحدا من قليلين دخلوا مكتبه، فربما أكون وحدى من دخلت إلى بيته بعد عامين من اللقاء الأول؛ فحين وطئت قدماى منزل عمنا أحمد رجب تدرك تماما أن من يسكنه هو إمام الزاهدين، وسيد المتواضعين، فالشقة اشتراها حين تزوج فى مطلع الستينيات من القرن الماضى، وليس بها أى مظاهر للترف أو الثراء رغم كونها تقع فى واحدة من أرقى مناطق الجيزة فى حى المهندسين، فالتكييف يبدو أنه اشتراه منذ زمن بعيد، والأثاث رغم أناقته إلا أنه لا يوجد به أى مبالغة، والجدران يكسوها ورق الحائط.
ويجلس على مقعده، وبجواره عدد كبير من الكتب والصحف وفى يده أخبار اليوم، وأمامه شاشة تلفزيون يشاهد عليها برامج التوك شو المسائية وقنوات الأخبار العالمية.
ذهبت إلى الأستاذ أحمد رجب – بناء على موعدنا - فى تمام الثانية عشرة ظهرا، وبمجرد أن وصلت أمام بيته وجدت من ينتظرنى ليصعد بى إلى شقته فى الدور الأول.
طرقة واحدة على الباب كانت كافية ليفتح «عاطف» – ذلك الرجل الذى لم يفارق الأستاذ منذ قرابة 40 عاما - فدخلت، وعبرت باب الشقة، ووجدت الأستاذ جالسا على مقعده، وجواره عصاه التى يتوكأ عليها، وممسكا بـ«أخبار اليوم» وحين رآنى علت الابتسامة وجهه، خاصة أننى كنت ارتدى تى شيرت مطبوعا عليه صورته، وأحمل فى يدى جائزة الصحافة العربية - المنحوت عليها اسمه - والتى شرفنى باختيارى لاستلامها نيابة عنه، وسلمت له الجائزة وشهادة التقدير والحقيبة، فكافأنى مكافأة لم تخطر لى على بال، وجعلنى أتجول فى بيته وأرى مكتبه ومكتبته.
رأيت بيته غرفة غرفة، وجلسنا ساعتين نتحدث فى كل شىء، لكن أغلب حديثنا دار حول أولياء الكتابة الصالحين الذين عاش معهم وبينهم، وقال لى إنه يرى أن المأساة والملهاة وجهان لعملة واحدة، لذلك منذ سنوات طويلة أعاد كتابة السيناريو والحوار لواحدة من أشهر المسرحيات التراجيدية، وهى مسرحية «عطيل» لشكسبير، ولكنه صاغها بصورة كوميدية، واتفق مع صديقه المخرج فطين عبدالوهاب على إخراجها، لكنه رحل قبل أن يخرج العمل إلى النور، ولم تكن معه نسخة أخرى من السيناريو الذى كتبه، ولم يستطع الورثة العثور على هذا السيناريو!.
وفى نهاية جلستنا أهدانى أستاذى أحمد رجب كتابه الأخير «يخرب بيت الحب»، قائلا: «إلى ابنى العزيز صحفى المستقبل المرموق الذى وكلته استلام جائزتى من مسابقة الصحافة العربية، والشهادة للحق أنه أحضر لى كل شىء كاملا دون أن يحدث منه أى اختلاس، فشكرا لامانته، وأتمنى أن أراه صحفيا مرموقا أفخر به لأنه ابنى».