الطريق
الإثنين 17 يونيو 2024 09:03 مـ 11 ذو الحجة 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

من العدد الورقي.. «قوم يا مصري».. سيد درويش.. مطرب ثورة 19 وقائدها الشعبي

لم يُمهِل القدر سيد الملحنين المصريين، سيد درويش، فاختطفه الموت سريعًا قبل أن يشهد عودة الزعيم المصرى العظيم سعد زغلول من منفاه؛ فكانت وفاتُه فى سبتمبر من العام 1923 ولم يتجاوز 31 عامًا، لكن كانت ألحانه وكلماته حاضرة فى أذهان المصريين وعلى ألسنتهم وهم يستقبلون زعيم الثورة، بعد أن نفاه الإنجليز فى أعقاب اندلاع ثورة 1919 إلى جزيرة سيشل فى المحيط الهندى.

لعل فنانا لم يرتبط بثورة 1919 ، بل بأى ثورة، كما ارتبط سيد درويش؛ لذلك أطلقوا عليه فنان الشعب، فقد كان درويش معبرا بكلماته وألحانه عن أهداف الثورة وطموحاتها وآمالها العريضة فى تخليص المصريين، وقتذاك، من ربقة الاحتلال الإنجليزى، لذلك قيل: إنّ لثورة 1919 زعيمين؛ سعد زغلول وسيد درويش، وكيف لا يكون سيد درويش زعيما لتلك الثورة وهو الذى ألهب بكلماته وألحانه حماسة المصريين فى برّ مصر، إلى درجة أنّ ألحانه وكلماته باتت ثاوية فى أذهانهم، يحفظونها ويردّدونها ويتمتمون بها.

غنّى درويش «قوم يا مصرى مصر دايما بتناديك، خُد بنصرى نصرى دين واجب عليك»، ثم أغنيته «بلادى بلادى لك حبى وفؤادى»، التى تحولت فيما بعد إلى نشيد مصر الوطنى، وهى أغنية مُزِجَتْ كلماتها وألحانها بالدم والرُّوح، واستهدفت مقاومة الإنجليز من خلال تأجيج العاطفة، وبثّ رُوح الوطنية، واستنهاض الهِمَم، فكان صوت سيد درويش هو صوت الثورة، وكانت كلماته وألحانه مَعبرا وممرًّا لتلك الثورة فى قلوب البسطاء.

اشتعلت ثورة 1919، والتفّ المصريون جميعا، مسلمين ومسيحيين ويهودا حول هدف واحد، هو الانتصار لمطالب الثورة، ومجابهة المحتلّ الإنجليزى ومعاونيه فى القصر الملكى، فأصبح الشعب كله يهتف فى شوارع القاهرة وميادينها  ومدارسها ومساجدها وكنائسها ومعابدها، بل يهتف فى أنحاء مصر كلها «سعد، سعد، يحيا سعد»، فلم يجد الاحتلال البريطانى وقتذاك بُدًّا إلا بإصدار القائد العام البريطانى أمرا عسكريًّا بالسجن ستة أشهر مع الشغل والجلد عشرين جلدة، بحق كل مصرى يهتف هتافات الثورة، أو يذكر اسم زعيمها وقائدها الخالد سعد زغلول مهما تكن سنّه أو حالته، عندئذ تمخّض عقل سيد درويش، ففكّر بذكاء الفنان الفطرى فى استخدام «الرمز» للتحايُل على قرارات وأحكام القائد العام لقوات الاحتلال الإنجليزى، فقام بتأليف أغنية «يا بلح زغلول»، وقد كانت تلك الأغنية الرمزية آخر ما لحّن سيد الملحنين المصريين، سيد درويش، قبل أن يُفارق الحياة فى ظروف غامضة، وبشكل مفاجئ، ولم يبلغ 31 من سِنِينه!!.

    « يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح..

      يا بلح زغلول يا زرع بلدى

      عليك يا وعدى يا بخت سعدى

       زغلول يا بلح يا بلح زغلول

       يا حليوة يا بلح يا بلح زغلول

       عليك أنادى فى كل وادى

       قصدى ومرادى».

تلك الأغنية التى أرّقت المحتلّ الإنجليزى، جادت بها قريحة سيد درويش الفنية، وأنتجتها عبقريته التى مافتئت تجود على مَن جاء من بعده من ملحنى مصر الكبار ومطربيها العِظام؛ فها هو ذا الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب يقول: «قبل سيد درويش لم نكن نسمع عن شىء اسمه ملحن، إن سيد خلق للملحن المصرى الشخصية الملكية. سيد لحن لأصوات المطربين ولأصوات الشعب ونحن لانزال نعيش فى خيره، فهو الأستاذ الأكبر لهذه المدرسة التى نعيش فيها»، ويكفى أنه ترك من تراثه العظيم 20 أوبريتا، لأهم الفرق المسرحية آنذاك، لاسيما فِرَق: جورج أبيض، وسلامة حجازى، ونجيب الريحانى، وغيرهم، وهى فى مجملها تمثّل أهم كنوز الموسيقى العربية، كما يكفى أن ندرك بديع عبقريته عندما نعرف أنه أبدَع هذه الأوبريتات فى ست سنوات، بخلاف أغانيه التى أبدعها هى الأخرى، فتلامست ومسّت أفئدة وأحاسيس المصريين كلهم، خصوصا الكادحين منهم.

وسيد درويش إذْ أحدَث طفرة موسيقية وفنية فى تاريخ الغناء المصرى، بيْد أنه لم ينسَ أن المصريين، أغلبهم، فى ذلك الزمان، كانوا صنايعية وأرْزَقية وعُمّال وربّات بيوت، فجاءت كثير من كلماته وألحانه لتُعبّر عن أحوالهم، وترصدها رصدا فنيا يحتفل بهم، ويُقدّر ما يقومون به من جهود وأعمال، ولانزال حتى يومنا هذا، وقد تغيّرت الأحوال وتبدّلت، نتغنّى بأغنية «الحلوة دى قامت تعجن فى الفجرية» وأغنية «الأسطى عطية»، الذى هو رمز لكل عمال مصر، وقد كان لهم من ألحان سيد درويش نصيبٌ عظيم، فهو ينشد بكلمات مصرية خالصة، دون أن ينسى رُوح الدعابة قائلا: «صبح الصباح فتّاح يا عليم.. والجيب مافيهش ولا مليم.. مين فى اليومين دول شاف تلطيم زى الصنايعية الملاطيم»، وكما يتذكر درويش صنايعية مصر وعمالها «الملاطيم!»، فإنه لا ينسى الفلاحين المصريين الذين كانت أحوالهم، وقتذاك، «تصعب ع الكافر»؛ فهم بين سندان الإقطاع ومطرقة البنوك الأجنبية الربوية يرزحون، فلم يجد سيد درويش مناصا من تطييب خواطرهم والتنبيه إلى ما يعانونه من ظلم وعسف وديون، بألحانه وكلماته المعجونة بطين وعرَق ودموع المصريين، التى منها «مليحة جوى الجلل الجناوى.. رخيصة جوى الجلل الجناوى.. جرب حدانا وخد جلتين خسارة جرشك وحياة ولادك.. فى اللى مهوش من طين بلادك.. شوف البلاوى دا البنك ناوى.. يرفع دعاوى علينا واحنا متجندلين»!.

لا جدال فى أن ثورة 19 كما كانت علامة فارقة فى تاريخ مصر السياسى، فهى أيضا كانت علامة فارقة فى تاريخها الفنى؛ لذلك إذا عدَدنا الزعيم الخالد سعد زغلول زعيمها ومفجّرها سياسيا ووطنيا، فإننا لا نجد حرجا إذا عدَدنا سيد الملحنين المصريين، سكندرى المولد، سيد درويش، قائدا ومفجّرا فنيا وروحيا لها، فكأن الثورة اندلعت لتكشف مدى عبقرية قريحة درويش الفنية والوطنية، بل عبقريته المتسامحة مع الآخر؛ ذلك أن كثيرين ربما لا يعرفون أن أغنيته الخالدة «قوم يا مصرى»، من كلماتها التي طُمِست وعُمّيت طوال عقود لأسباب دينية وعقائدية وسياسية: «حِبّ جارك قبل ما تحب الوجود.. إيه نصارى ومسلمين.. قال إيه ويهود.. دى العبارة نسل واحد من الجدود».

حتما، سيبقى اسم سيد درويش خالدا فى دنيا الناس؛ لأنه كان فنان الشعب.