الطريق
الجمعة 2 مايو 2025 03:14 مـ 5 ذو القعدة 1446 هـ
جريدة الطريق
رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس التحريرمحمد رجب

بيكاسو وأعداء الحياة في مدينة جرنيكا

هناك مدن يحتاج الوقوع فى غرامها أياما طويلة وحكايات كثيرة .. ومدن أخرى تنجح بعد ساعات قليلة فى أن تسكن القلب والذاكرة .. وهذا ما جرى لى مع مدينة جرنيكا شمال إسبانيا التى ذهبت إليها بمحض المصادفة ولم أبق فيها طويلا .. ورغم ذلك أحببتها وعجزت طول الوقت عن نسيانها هى وحكايتها وملامحها ومعالمها .. أتذكرها دائما كلما عاش أهل مدينة أخرى أهوال حرب ودمار وخراب أيا كان موقع هذه المدينة وجنسيتها وحكايتها .. ولم تفاجئنى مدينة جرنيكا بعد سنين من زيارتى لها وغرامى بها حين أصبحت أكثر مدينة فى العالم تتضامن مع غزة وأهلها وتقود مدن إسبانيا للإلتفات لنساء وصغار جاءهم الدم والموت وسط بيوتهم .. فقد أصبحت هذه المدينة رمزا لكل الأبرياء الذين يدفعون ثمنا قاسيا وفادحا وسط حروب لم يكونوا اصحابها ولم يحملوا فيها سلاحا ولم يطلبوا إلا البقاء على قيد الحياة رغم الحزن والخوف والألم والمرارة .. ولم أكن أعرف كل ذلك حين سافرت مع الأهلى إلى مدينة سان سيباستيان فى إقليم الباسك لمباراة ودية مع نادى ريال سوسيداد قام بتنظيمها الصديق هشام الخشن بالتعاون مع مؤسسة الأهرام .. وكانت المرة الأولى التى أزور فيها إقليم الباسك الإسبانى الغاضب والمغضوب عليه .. وكنت كثير الأسئلة عن الباسك وأهله وتاريخه وعاداته فاقترح أحد السائقين المرافقين لبعثة الأهلى أن أذهب معه فى سيارته لرؤية مدينة جرنيكا التى تبعد ساعة واحدة عن مدينة سان سيباستيان .. كنت وقتها أعرف فقط لوحة جرنيكا التى رسمها الفنان الإسبانى العالمى بيكاسو فأحببت رؤية مدينة جرنيكا لأعرف لماذا رسم بيكاسو من أجلها هذه اللوحة الشهيرة وكيف أصبحت لوحة عن مدينة أشهر من المدينة نفسها .. لكننى فى مدينة جرنيكا عرفت ما هو أهم من اللوحة ومن بيكاسو .. ووقعت فى غرام مدينة ليست كبرى أو شهيرة سواء فى العالم وإسبانيا أو حتى فى إقليم الباسك .. لكنها تبقى رغم ذلك تستحق الكتابة والحب

وفى الطريق إلى مدينة جرنيكا .. بدأت أرى تفاصيل إقليم الباسك بعيدا عن المدينتين الكبيرتين فى الإقليم اللتين اعرفهما .. سان سيباستيان وبيلباو .. الأرض الخضراء وسط جبال وتلال تمر بينها طرقات ضيقة محاطة بأشجار كبرت فى العمر لكنها لا تزال تحتفظ بصلابتها تماما مثل أهل الباسك .. قرابة مليونى انسان يحاربون طول الوقت للاحتفاظ بهويتهم وثقافتهم كأحد أقدم شعوب أوروبا .. ويوسكارا هى لغتهم الخاصة التى يتمسكون بها ويحافظون عليها وهى إحدى أقدم لغات أوروبا وأصعبها أيضا .. لا تشبه الإسبانية أو الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية ويختلف شكل حروفها عن بقية لغات أوروبا .. لكن يعتز بها أهلها مثلما يعتزون بأرضهم وتاريخهم ويطلبون طول الوقت الانفصال عن إسبانيا للاستقلال وتأسيس دولة خاصة بإقليم الباسك الذى يقع معظمه شمال إسبانيا ويبقى جزء صغير منه فى جنوب فرنسا .. ومن يقرأ عن الباسك وأهل الإقليم وحكاياتهم .. سيدرك بوضوح ما تستطيعه كرة القدم خارج ملاعبها .. فالباسك فى شمال إسبانيا تماما مثل كاتالونيا فى جنوبها .. لكل منهما أرض وتاريخ وحكاية طويلة وحلم بالانفصال والاستقلال .. لكن نجح نادى برشلونة فى أن يحيل كاتالونيا لقضية عالمية يعرفها كثيرون جدا فى العالم بينما لم ينجح الباسك فى ذلك لأنه لا يملك أندية كروية بحجم وقيمة برشلونة .. وحاول أهل الباسك كثيرا استغلال نادى أتلتيكو بيلباو ليصبح سفيرا كرويا وسياسيا وإعلاميا لهم مثل كاتالونيا وبرشلونة .. لكن لم ينجح أتلتيكو بيلباو فى مهمته فاضطر بعض أهل الباسك لاستخدام السلاح بدلا من كرة القدم .. وتأسست حركة إيتا فى 1959 التى تطالب بإنفصال الباسك وتأسيس دولته .. وهددت إيتا مدريد كثيرا وطويلا .. وكانت إيتا هى حروف تختصر إيسكادى تا أتاسونا .. أى بلاد الباسك والحرية
وأخيرا أصبحت فى مدينة جرنيكا .. وبعد البيوت الصغيرة والجميلة أيضا .. وبعد الوقوف قليلا فى حديقة كبرى جميلة اسمها أهل أوروبا .. ذهبت إلى شارع بيدرو دى إيليخالديكاليا حيث لوحة جدارية مقتبسة من لوحى جرنيكا التى رسمها بابلو بيكاسو .. ووقفت طويلا أمام الجدارية لتبدا حكايتى مع جرنيكا وأهلها ومأساتها .. فرغم أننى رأيت صورا كثيرة من قبل لهذه اللوحة وعرفت بعضا من تفاصيلها .. إلا أنه فارق كبير بين أن ترى وتقرأ وأن تستعيد الحكاية وأنت تقف فى نفس المدينة ووسط أهلها .. ففى الساعة الرابعة والنصف عصر يوم الإثنين السادس والعشرين من أبريل 1937 .. قامت أربعة أسراب طائرات المانية بقيادة العقيد فولفرام ريختهوفن بقصف المدينة لمدة ثلاث ساعات .. فتحطمت وانهارت سبعون بالمائة من مبانى المدينة وبيوتها .. وسقط الكثير من الضحايا معظمهم من أطفال ونساء حيث كان الرجال بعيدا يشاركون فى الحرب الأهلية الإسبانية .. حرب دارت رحاها بعيدا عن جرنيكا التى لم تكن من الأهداف العسكرية اللازم قصفها أثناء تلك الحرب ولا تمثل تهديدا لأى أحد ولن يحقق تدميرها وإحراقها اى انتصار .. ولم يكن هناك أى مبرر لأن تصبح مدينة جرنيكا بالتحديد من أوائل المدن الأوروبية التى يتعرض فيها المدنيون لمثل هذا القصف المجنون وهم يعيشون فى مدينة ليست فى حالة حرب
وكانت الحرب الأهلية الإسبانية قد بدأت فى يوليو 1936 بعدما تحولت إسبانيا إلى جمهورية أسسها المطالبون بالديمقراطية والحرية والمساواة ويدعمها الاتحاد السوفييتى .. وحاربهم رجال الجيش وكل من يرفضون للجمهورية الجديدة تؤيدهم ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية .. وكان أهل الباسك من الذين خاضوا هذه الحرب دفاعا عن الحرية .. وسافر رجالهم يحملون السلاح فى مختلف مدن إسبانيا التى لم تكن منها مدينة جرنيكا .. وبعد يومين فقط على قصف جرنيكا .. كانت الصحف الأوروبية والأمريكية تكتب تفاصيل المأساة وحجم الخراب والألم الذى عاشته هذه المدينة الصغيرة وأهلها .. وكان الرسام الإسبانى والعالمى الشهير بيكاسو أحد الذين قرأوا عما جرى .. وقتها كان بيكاسو يقيم فى باريس .. وقبل شهرين فقط من مأساة جرنيكا كانت الجمهورية الإسبانية قد طلبت منه رسم لوحة جدارية كبيرة ترمز لإسبانيا لعرضها فى معرض باريس الدولى 1937 .. وبعدما عرف بيكاسو بما جرى فى جرنيكا .. شطب وألغى كل افكاره وخطوطه القديمة .. كانت إحدى تلك الحظات التى يتحول فيها الفنان مهما كان عابثا ولاهيا إلى إنسان صاحب قضية .. فقد كان بيكاسو عاشقا للحياة والنساء والرسم ويهوى الحياة الناعمة ويستمتع بإعجاب الناس وخصوصا السيدات بفرشاته وألوانه .. لكنه أصبح بعد جرنيكا من الذين قرروا أن يقولوا لا للدم والعنف وأن يدفع النساء والأطفال ثمن حرب لم يبداوها ليصبحوا فى النهاية هم ضحاياها
وبدأ بيكاسو فى 4 مايو 1937 أولى محاولاته لرسم لوحة جرنيكا .. وكانت تقيم معه وقتها إمرأة فرنسية اسمها دورا مار .. أحبها بيكاسو وبدأ يرسمها بعدما أصبحت ملهمته الجميلة .. وحين بدأ بيكاسو التخطيط للوحة جرنيكا .. كانت دورا تقوم بتصوير هذه المحاولات .. 28 صورة التقطتها دورا منذ البداية فى 11 مايو حتى اكتملت اللوحة فى 4 يونيو 1936 .. وتم الاحتفظ بهذه الصور كلها مع اللوحة نفسها فى متحف الملكة صوفيا فى مدريد .. لوحة بالأبيض والأسود مع ظلال زرقاء عرضها ثمانية أمتار وارتفاعها ثلاثة أمتار .. أرادها بيكاسو تجسيدا للخوف والحزن والألم وكل ما عاشه الناس فى مدينة جرنيكا .. وفى معرض باريس شاهدها الناس لأول مرة فى الجناح الإسبانى .. وبعد المعرض تنقلت اللوحة فى جولة عالمية ورآها الملايين واعتبروها شهادة على الجريمة التى كانت .. وفى معظم الأوقات .. كانت لوحة جرنيكا أهم وأشهر من مدينة جرنيكا نفسها .. بل كان هناك وربما حتى الآن من شاهدوا لوحة جرنيكا واعجبتهم وأشادوا بها وتحدثوا عنها دون ان يعرفوا أن جرنيكا مدينة حقيقية وليست مجرد لوحة رسمها بيكاسو .. وأعترف أننى عشت أوقاتا كثيرة أتخيل أن جرنيكا سواء كحكاية أو لوحة قام الإعلام الغربى بتضخيمها بكثير جدا من المبالغة واستغلالها أثناء وبعد الحرب العالمية التى حاربت فيها أوروبا والولايات المتحدة الألمان والإيطاليين .. فهناك مدن أخرى كثيرة عانت وعرفت الخراب والدمار وسالت فيها دماء أكثر مما جرى فى جرنيكا .. مدن فى أوروبا وأيضا فى مصر مثل بورسعيد 1956 والسويس 1973 .. وأن الفارق الوحيد كان أن بيكاسو جسد مأساة جرنيكا فى لوحة أصبحت من اهم وأشهر لوحات العالم بينما لم تجد تلك المدن من يجسد معاناتها بمثل هذا الشكل أو لم تخدمها الظروف والحسابات السياسية مثلما جرى مع جرنيكا .. لكننى رغم كل ذلك احترمت جرنيكا وأهلها وحكايتها الذين تحدثت مع كثيرين منهم .. فلم يقولوا أنهم ضحايا المأساة الأكبر فى أوروبا أو أنهم عانوا ما لم يعانيه غيرهم .. لكنهم اكتفوا فقط بما جرى فى مدينتهم ليتضامنوا مستقبلا مع كل واى مدينة تعيش نفس هذه المأساة ويموت فيها النساء والأطفال الأبرياء بسلاح يفتقد العدالة والضمير والانسانية
ولهذا كانت مختلفة جدا حكايتى مع جرنيكا المدينة وليست اللوحة .. ورغم الساعات القليلة التى قضيتها فى جرنيكا وفى شوارعها وووسط بيوتها .. إلا انها كانت كافية جدا لأن أحبها .. وأن أحب بيكاسو أيضا وكل فنان لا يتردد فى التحول دفاعا عن حق وحياة .. وأن أكره أكثر هؤلاء الذين يقتلون بدم بارد ولا يترددون فى قتل نساء وأطفال أبرياء .. وفى سوق جرنيكا حكوا لى عن الطيارين الألمان الذين بعدما قصفوا المدينة عرفوا أن معظم اهلها اختبأوا فى نفس هذا السوق من القنابل والنيران المشتعلة فعادوا بطائراتهم وقصفوا السوق وألقوا مزيدا من القنابل على هؤلاء الأبرياء الذين لم يجدوا أى حماية ممن يكرهون البراءة ويكرهون الحياة

موضوعات متعلقة