حسنة «لوريس» بقرية برنشت «النور مكانه فى القلوب».. حكاية أول قرية بالعياط لتحدى العمى بالجيزة

فقدوا البصر فصنعوا بإحساسهم أجمل المنتجات اليدوية
فى أحد شوارع قرية برنشت التابعة لمركز العياط بمحافظة الجيزة، يتوافد عدد من المكفوفين يوميًا، يتكئون على عصيهم، لتجنب التخبط فى عوائق الطريق، قد يدلهم فرد من الأسرة إن وجد، ويصلون إلى باب حديدى أسود اللون، بعتبة عالية، يدخلون ليبدأوا العمل على «مقشات ودواسات»، من ليف النخيل، يأخذونه مجانًا من أصحاب الأراضى بالبلاد المحيطة بهم، كمساعدة منهم وتحفيزهم على قضاء وقت فراغهم فى ما يشغلهم، ويبعدهم عن السؤال.
قاطنو القرية من أبناء «مكتب رعاية وتوجيه المكفوفين ببرنشت»، يذهبون إليها يوميًا، فى حين أن القادمين من القرى المجاورة «بدسا، برويش، العبسى، بيدف» وغيرها من الأماكن، يحضرون يومين أسبوعيًا، ويتلقون أجرًا أقل من الموجودين يوميًا.. «الطريق» زارت المكان وعاشت يومًا كاملًا مع متحدى الإعاقة الذين قهروا العمى بالإحساس.
أقدم العاملين
الحاجة معزوزة أحمد، صاحبة الـ80 عامًا، من قرية برنشت، موجودة فى مكتب الرعاية منذ أن كانت طفلة، حيث تم افتتاحه فى عام 1954، وهى فى العاشرة من عمرها، وكانت صاحبة فكرة تنفيذه تدعى «لوريس»، وجاء بعدها الأستاذ شفيق، من إمبابة، وانتقل إلى البلدة للسكن فى شارع الوحدة المحلية هو وأسرته، وعلم كل القادمين كيفية القراءة بطريقة برايل، إيمانًا منه بأهمية مساعدة الجميع، لكنه توفى بعدما بقى معهم لمدة 15 عامًا، مما أثار حزن الجميع.
الحاجة معزوزة ليست الأقدم فقط، بل هى الأهم فى المكان، حيث تعد المحاسب، لأنها تتلقى كل الرواتب، وتوزع أى أموال تأتى لها بالتساوى على الكل، وترعاهم جميعًا، وتعتبرهم أبناءها، فقد سكنت بالمكان منذ أن حضرت إليه، ولم تتزوج.
وتعيش معزوزة فى المؤسسة، حيث تم تخصيص غرفة لها، وبها «دولاب» قديم ومتهالك، به الكثير من الكتب المطبوعة على طريقة برايل، أهداها لها شفيق، معلمها الروحى، وصاحب المؤسسة قديمًا، قبل أن تذهب ملكيتها لرجل من حلمية الزيتون، وتقرأها من آن لآخر حتى لا تنسى الطريقة التى تعلمتها منذ سنوات طويلة، وتعلمها للأجيال القادمة، رغبة منها فى نقل ما تعلمته.
خطوات الصناعة
تتعدد صناعات المكان ما بين «مقشات ودواسات»، تتم صناعتها من ليف النخيل، حيث تتواجد أحواض تُملأ بالمياه من أجل غمر الليف، ليصبح لينًا، ويتم استخدامه بسهولة ويسر، وبالحوض علامة حديدية يلمسها العاملون لمعرفة الارتفاع الذى وصل إليه الماء.
يبدأ يوم العاملين المكفوفين بوضع الليف فى المياه، ثم يقومون بنثرها، أى جعلها قطعًا متباعدة عن بعضها البعض، ثم يتم «فتلها»، لتصبح جاهزة فى شكل أحبال لها نفس الأطوال.
وتغزل «الدواسات» على نول يدوى صغير، فى حين أن المقشات يتم غزلها على مسمار معلق فى الحائط، ويعتمدون على حاسة اللمس الخاصة بهم فى الصناعة، فإذا كانوا قد فقدوا البصر، فهم لم يفقدوا البصيرة التى تؤهلهم لتضفير كل ثلاثة أحبال مع بعضها، بشرط أن تكون نفس الطول.
ويبلغ ثمن المقشة سبعة جنيهات، فى حين أن ثمن الدواسة 14 جنيهًا، يتم بيعها فى معارض بالبلدة، ولزبائن يطلبونها خصيصًا، لأنها أصبحت غير مرغوب فيها الآن.
أما عن أعداد العاملين فى المؤسسة فيبلغ عددهم حوالى 40 عاملًا، برواتب تبدأ من 700 جنيه، علاوة على الوجبات المجانية التى تقدم لهم يوميًا، وعددها ثلاث وجبات.
نظام الوجبات
لأن العاملين يقضون أغلب اليوم فى المؤسسة، فيتم طهى الطعام، عن طريق سيدة تدعى أم محمد موجودة خصيصًا لهم، يأتى الطعام لها مجانًا، لكن يدفع كل منهم مبلغ 20 جنيهًا شهريًا كمرتب لها.
يتم طهى الأرز يوميًا وبجانبه نوع من اللحوم، إلا يوم الجمعة، تحضّر لهم «كشرى»، ويحب المتواجدون طعامها كثيرًا، كما أنهم اعتادوا عليها منذ قديم الزمن.
يتعدد العمال ما بين من فقد البصر قديمًا وهؤلاء معتادون على تلك الظروف، فى حين أن من فقده حديثًا فإن التأقلم على الوضع يكون أصعب لعدم تعوده على الأمر، لذا العمل هو أفضل وسيلة له للهروب من التفكير، عن طريق شغل وقت فراغه، ولكيلا يشعر بأنه عالة على غيره.
أصعب الحالات
لعل الأصعب بينهم من حيث حالته النفسية هو من أصيب بالعمى «على كبر»، لأنه لم يعتد الأمر على عكس الذين أصيبوا به فى سن صغيرة، أو من ولد به، لأنهم قد ارتضوا بما حدث لهم، واستطاع الزمن أن يذيب قساوة الظروف المحيطة بهم، عاملين بمبدأ مجبر أخاك لا بطل.
وتحرص الجمعيات الخيرية والوزارات، خاصة وزارة التضامن الاجتماعى، على دعم المكفوفين، وتتعدد طرق دعمهم ما بين الرعاية، التقويم، التوجيه، الحماية الاجتماعية، التأهيل المهنى والتمكين الاقتصادى، وذلك بالتعاون مع الجمعيات الأهلية المتخصصة، بما يشمل استخراج بطاقة إثبات شخصية، وتوفير خدمات تدريب مهنى وتشغيل، بالإضافة إلى تقديم الخدمات الوقائية والإرشادية للأشخاص ذوى الاحتياجات الخاصة وأسرهم، وتوفير برامج التأهيل الشاملة التى تؤهلهم لسوق العمل، كما توفر بعضها الإقامة الداخلية للحالات التى يصعب انتقالها للتدريب بسوق العمل.