تامر أفندي يكتب: الرئيس السيسي في ”ميزان الشارع المصري”
ثمة أزمة وجودية لدى المصريين، وهي "العاطفة" تلك التي طيلة التاريخ جعلتهم ينفقو المحبة بلا عقل، فلكم أحبوا جلاديهم وتغزلوا بهم ولكم كرهوا محبيهم.
ولأنهم أصحاب فائض من الحب ينفقونه بلا حساب ولا أسباب، فما من أحد ينطق بكلمة على هواهم إلا ويخرجوا كل ما في قلوبهم من حب ويعطونه له، حتى وإن كان عدوهم، فعلوا ذلك مع من حكموهم وحتى مع الذين استعمروهم وحكايات التاريخ والمفاضلة كثيرة بين فرعون وآخر وملك وغيره، حتى وهم يكتبون التاريخ غلبتهم في مواضع كثيرة العاطفة، تلك التي ما أن تدبرتها إلا ووقعت في حيرة من أمرهم، ففي التاريخ الحديث ثاروا على "فاروق" وبكوه لدى رحيله، وانتقدوا "ناصر" وعظموه وثاروا من أجل أن يبقى في منصبه، عظموا السادات وثاروا عليه، وثاروا على" مبارك" وبكوا عليه..
لم تقف حدود العاطفة لديهم عند هذا الحد بل حتى في أمورهم الحياتية العادية يظهر التضاد جليا، يتعاركوا ويصفحوا ويتنازلوا عن حقوقهم.. يطالبوا بمحاسبة المخطئ ولدى الحكم عليه يتعاطفوا وينسوا جرائمه، وليس هناك أشد إثباتا لذلك أكبر من أنهم ينفقوا أعمارهم في الركض وراء ثأر ثم يسامحوا.
كانت ثورة يناير كاشفة لتلك الأزمة في الشخصية المصرية.. وامتدت بعدها لسنوات ووصلت لأوجها في يونيو ثم بدأ مؤشرها يتهاوى، ربما لأن الرئيس السيسي وضع يده على ذلك العطب فقرر التعامل معه بتجرد، فاصطدم بذلك الموروث وتعامل مع الأمور بأسبابها فاحتارت معه عاطفة المصريين بين تأييد ومعارضة، فما تسمع انتقاد إلا ويتبعه إشادة، وما ترى شكوى إلا ومعها اعتراف ببذل عطاء.
تلك الصدمة جعلت هناك منطق لدى الجموع كان غائبا لعقود، فلا هو حب على بياض ولا هو انتقاد بدون أسباب، حالة من الجدال تعظم دور العقل وتنحي القلب جانبا يجب استغلالها في تأسيس ثوابت بين الحاكم والشعب، تقوم على مبدأ المحاسبة حتى وإن كانت وجدانية الآن باعتبارها فترة مخاض لميلاد شخصية مصرية، تدرك ما لها وما عليها وتتحمل مسؤولياتها وتحاسب على التقصير في حقوقها بعيدا عن التشدد والإسراف، وبكفتي ميزان العدل التي يرجح إحداها عن الأخرى الفعل وليس معسول الكلام.
وبقياس مستوى ذلك في الشارع المصري سيرى المتفحص أنه برغم الأعباء الاقتصادية ما زالت كفة التأييد راجحة، ففيها 10 سنوات من رفض التبعية، وإعادة هيبة الدولة المصرية، والقضاء على الإرهاب، وإعادة تسليح الجيش المصري، وحفظ الحدود والوجود، ورفع كفاءة البنية التحتية، وإقامة العديد من المشروعات، وعبور العديد من الأزمات الطاحنة، وعودة شمس الدبلوماسية المصرية جلية، وترسيخ مبدأ أنه لا أحد فوق الحساب.
10 سنوات تحتاج التأني في رصد تحولاتها لوطن كان العالم يستخرج له شهادة وفاة، والآن يتهافت عليه كأهم أسباب الحياة في إقليم يعصف به الموت.
في الكفة الأخرى ثمة ضيق في العيش والكثير من الأعباء، وتحمل لأزمات لم يسبق أن شعر بها المواطن المصري لكن عجلة الحياة لم تقف وعثرات الطريق لم تنبطح أمامها الهامات.. وفي فاتورة الحساب مازال الرجل له رصيد بأسباب كان أو قدرا لكنه أمام محكمة الشعب حتى هذه اللحظة غير مدان، وإن كان يراهن على إنصاف التاريخ والأجيال القادمة، فحتى في الاستدانة له عذره أن الظروف قد حكمت عليه أن يبني وهو خالي الوفاض.
هذا ليس إطراء بكلام معسول لكنه مقارنة بين ما كان وما أصبح وما سيكون حتى وإن لم يشعر البعض بشئ، فيبقى الأهم أنه وضع أساسا يبنى عليه في شتى المناحي وأن حديثه في الكثير من الأحيان وإن كان صادما إلا أنه دون زيف.
كغيري من الناس أشكو معاناة الحياة غير أني كلما نظرت إلى صورة مصر وهي تنزف في مواجهة الإرهاب وترتعد من خشية السقوط في براثن التقسيم ورأيتها الآن وهي عفية صاحبة شخصية وقرار، أنسى جراحي وابتسم وأنا أراها تضمد جراحها وتستعيد تاريخها ويعاود العالم وضعها في قدرها الذي تستحقه.
سبكشف الغد عن الكثير من الأمور الخفية وستظهر حقائق ليس الآن وقت ذكرها وسنتباهى جميعا بتحمل تلك الفاتورة القاسية رغم المرارة فلا أحدا يستعير أبا لو كان أباه فقيرا.
وللحديث بقية.