التسييس.. معول هدم العمل النقابي والحزبي والاجتماعي في مصر.. بقلم القيادي العمالي المستقل محمد عبدالمجيد هندي
إن تسيس العمل النقابي والحزبي والاجتماعي ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل هو خطر وجودي يُهدد استقرار المجتمع ووحدته. هذه الممارسات التي تُجر المؤسسات الوطنية إلى مستنقع التبعية السياسية تحوِّلها من أدوات بناء إلى معاول هدم. العمل النقابي، الذي يمثل روح الكفاح من أجل حقوق العمال والفلاحين، أصبح في كثير من الأحيان رهينة لسياسات قاصرة تسعى إلى السيطرة عليه وإفراغه من رسالته الحقيقية. النقابات في أصلها تُعتبر صوت من لا صوت لهم، منصات تطالب بالعدل وتحقق التوازن بين حقوق العمال وأرباب العمل، لكنها اليوم تجد نفسها مقيدة بتوجيهات تُبعدها عن قضايا العمال الجوهرية وتدفعها نحو خدمة أجندات سياسية ضيقة لا تمت بصلة لاحتياجات العامل البسيط الذي يُصارع ظروف الحياة القاسية.
النقابات المستقلة كانت وما زالت الحلم الذي يراود كل عامل وفلاح في هذا الوطن، حلم أن تكون هناك جهة تحمي حقوقهم وتدافع عن مصالحهم بعيدًا عن أي ولاءات أو تدخلات خارجية. لكن هذا الحلم يتعرض اليوم للتشويه بفعل محاولات فرض التبعية السياسية عليها، مما يجعلها عاجزة عن أداء دورها الحقيقي. عندما يتحول العمل النقابي إلى أداة سياسية تخدم مصالح السلطة أو الأحزاب، فإن ذلك يؤدي إلى انهيار الثقة بين العمال ونقاباتهم. كيف يمكن للعامل أن يثق في جهة من المفترض أن تدافع عنه بينما هي منشغلة بتحقيق مصالح سياسية لا علاقة لها بمعاناته اليومية؟
وفي الجانب الحزبي، فإن التسييس الذي يخترق الحياة السياسية يجعل الأحزاب تفقد دورها الأساسي كمنصات تعبر عن طموحات الشعب ومطالبه. الأحزاب التي تُنشأ لتكون أدوات للإصلاح والتحول الديمقراطي أصبحت اليوم وسيلة لتحقيق الهيمنة والسيطرة، لا تحمل برامج وطنية حقيقية تخدم الشعب، بل تسعى إلى تحقيق مكاسب فئوية وشخصية، مما يُفقد المواطن ثقته في النظام السياسي ككل. هذا الوضع يُكرس مشهدًا قاتمًا، حيث تتلاشى فيه الديمقراطية الحقيقية ويصبح الصراع على السلطة هو الهدف الأسمى.
الحياة الحزبية في مصر بحاجة إلى إعادة بناء على أسس وطنية خالصة، تقوم على خدمة المجتمع بأسره وليس الانحياز لتيارات أو شخصيات بعينها. الإصلاح الحزبي يبدأ بإعادة تعريف دور الأحزاب كأدوات للإصلاح والتغيير وليس مجرد منصات للتنافس على السلطة. الأحزاب يجب أن تلتزم بمبادئها الوطنية وأن تعكس نبض الشارع واحتياجات المواطن البسيط، وإلا فإنها ستظل عبئًا على الحياة السياسية وعائقًا أمام تحقيق التنمية الحقيقية.
أما في مجال العمل الاجتماعي، فإن التسييس الذي يخترقه يجعل من المبادرات الخيرية وسيلة لتحقيق الهيمنة والسيطرة، بدلًا من أن تكون أداة لتخفيف معاناة الناس. الجمعيات والمؤسسات الاجتماعية التي أُنشئت لخدمة المواطن أصبحت في كثير من الأحيان أدوات تُستَغل لتحقيق مصالح سياسية. هذا الوضع يُفقد العمل الاجتماعي قيمته الأخلاقية والإنسانية، ويُعمق من الأزمات بدلًا من أن يساهم في حلها.
العمل الاجتماعي يجب أن يكون بعيدًا عن أي تدخلات سياسية، وأن يركز فقط على تحقيق التكافل والعدالة الاجتماعية. عندما يُستغل هذا المجال لخدمة أجندات خفية، فإنه يُفقد المجتمع ثقته في أي مبادرة تُطرح، ويُكرس شعور الإحباط بين المواطنين الذين باتوا يرون في كل عمل خيري نوايا مستترة لا تخدم إلا مصالح قلة قليلة.
إن تسيس هذه المجالات الحيوية الثلاثة يؤدي إلى انهيار القيم والمبادئ التي تُبنى عليها المجتمعات السليمة. النقابات تصبح بلا صوت، الأحزاب بلا رؤية، والعمل الاجتماعي بلا روح. هذا الوضع يجعل المجتمع كله عرضة للانقسام والتفكك، حيث تُصبح المصالح الضيقة هي المحرك الرئيسي لكل نشاط، وتتلاشى الأهداف الوطنية التي يجب أن تكون هي البوصلة التي توجه الجميع.
مصر اليوم بحاجة إلى نهضة حقيقية تستعيد فيها هذه المجالات الثلاثة دورها الوطني الحقيقي. لابد من تحرير النقابات من أي تبعية سياسية، وإعادتها إلى دورها كحامية لحقوق العمال والفلاحين. لابد من إعادة بناء الحياة الحزبية على أسس ديمقراطية سليمة تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. لابد من ضمان استقلالية العمل الاجتماعي، وحمايته من أي استغلال سياسي يُفرغه من مضمونه الإنساني.
هذا التغيير لن يتحقق إلا بإرادة وطنية صادقة تقف في وجه كل محاولات التسييس المدمرة. إننا بحاجة إلى شجاعة المواجهة وإلى وعي كامل بخطورة الوضع الراهن. الوطن لن ينهض إلا إذا اتحدنا جميعًا خلف هدف واحد وهو إعادة بناء المؤسسات على أسس من النزاهة والاستقلالية. المواطن المصري يستحق أن يعيش في وطن يحترم حقوقه ويحقق طموحاته، ولن يتحقق ذلك إلا إذا عدنا إلى المبادئ التي بُنيت عليها هذه المؤسسات، وأعدنا لها دورها الحقيقي الذي يخدم الجميع دون استثناء.
إنها دعوة مفتوحة لكل من يحمل في قلبه حبًا لهذا الوطن، دعوة إلى الكفاح من أجل تحرير النقابات من قيود التبعية، وإصلاح الحياة الحزبية، وتنقية العمل الاجتماعي من شوائب السياسة. هذا هو الطريق الوحيد لبناء مصر قوية وعادلة، وطن يحتضن كل أبنائه ويوفر لهم حياة كريمة تليق بهم.