محمد الجوهري يكتب: مراسلٌ حربيّ في جبهة الذات

«الحرب طويلة… أطول مما توقعت. والعدو؟ ليس سِوى أنا، حين أكون في غير صالحي»
تمّ تعييني، بقرارٍ صادر من أعلى سلطة في داخلي، كمراسل حربيّ في جبهةٍ لا يُرصد فيها سوى صدى الأفكار، حيث البنادق كلمات، والقنابل نوبات حنينٍ لا تطاق، لا تاريخ لهذا التعيين، ولا أوراق رسمية، فقط إحساس طاغٍ بأنني صرت مطالَبًا بأن أروي ما لا يُروى، وأن أحكي عن حربٍ تُخاض بلا صخب، حيث الجروح لا تُرى، لكنها تنزف طيلة الوقت.
“اللي يعرف اللي في قلبى يمشي في جنازتي من غير ما يبكي”.
لم أكن أفهم هذا المثل الشعبي حين كنت أسمعه يُقال كنوعٍ من المبالغة، لكن الآن، وهو يتردد داخلي كنداءٍ قديم، أدركت أنه يصف تمامًا ما يعنيه أن تموت مرارًا وأنت واقف، أن تظل تقيم جنازات صامتة لأشياء لم تُولد أصلًا لحبٍ لم يكتمل، لفرصٍ لم تأتِ، ولنسخةٍ منك لم تُمنح حق الحياة.
كانت أولى المهام، التوغل إلى عمق الذاكرة، دخلت كمن يدخل حقل ألغامٍ من الذكريات، كل خطوة تحمل احتمال الانفجار، وجدت الطفولة مكدّسة في ركنٍ بارد، أحلامٌ بسيطة، لكن ناصعة، الطفل كان هناك، يلهو بفكرة الغد، لا يعرف شيئًا عن الخذلان، ولا يدرك أن السنين القادمة ستجعل من وجهه قناعًا، ومن قلبه حصنًا متهالكًا.
سرتُ بعدها في ممرات العقل، حيث يتعاقب الضوء والظل كما في لوحات الهاربين من عتمة العالم، هناك، في ركنٍ مُظلَّل، التقيت بما يُسمى “التفكير الزائد”، دوامة تدور بك ثم تقذفك خارج الزمن، إلى احتمالاتٍ مريضة، وسيناريوهات لم تحدث، ولن تحدث، لكنها تُفرغك من طاقتك كما لو أنك خضتَ ألف معركةٍ حقيقية.
الوحدة؟ كانت تنتظرني في غرفةٍ بلا نوافذ، تتلحّف الصمت، وتحدّق في جدار الزمن، لم تبتسم، لم تتكلم، فقط أشارت إلى مقعدٍ خشبيّ مهترئ، جلستُ عليه، فشعرتُ أنني جلستُ فوق كتلة من الذكريات الثقيلة، فهمت فجأة، الوحدة ليست عدوًا، إنها مرآة، وتلك المرآة لا تعكس صورتي كما يراها الآخرون فقد تشكلت عبر آلاف التشققات، صدمة أولى لم يُفهم ألمها، خذلانٌ لم يُسمح له أن يُقال، وشغفٌ حُرم من التحقّق حتى خبا.
في ساحة الروح، كانت هناك أصداء، كل أمنية لم تُلبَّ، لها صوت، كل قرار لم يُتخذ، له صدى. الأمنيات المتروكة تتحرك كأشباحٍ في الممرات، تحمل وجوهًا كنتُ أرتديها يومًا، بعضها يضحك بسخرية، «ظننت أنك كنت شجاعًا؟»، وبعضها يبكي في صمت، «أردتك فقط أن تؤمن بي»، تمنيتُ أن أهرب، لكن المراسل لا يهرب، عمله أن يرصد، أن يبقى حتى النهاية، أن يشهد كل شيء ولا يغلق عينيه.
صدماتي؟، مخلوقات عاشت في داخلي، تغذت على خوفي، ونمت مع كل لحظة ضعف، إحدى الصدمات جلست بجانبي، قالت: «أنا نسيت، لكنك لم تنسَ»، اكتشفت حينها أن ما يُقال عن الزمن لا يشفي، هو فقط يُعيد تشكيل الجرح بطريقةٍ لا ترى نزفه، لكنك تشعر به يتخلل كل حركة، كل قرار، كل محاولة للفرح.
وحين ظننت أن الجولة انتهت، قادتني الروح إلى أقصى نقطة في الذات، هناك، حيث تُخزَّن الأسئلة التي لا إجابة لها، لماذا صمتُّ حين كان الكلام حياة؟ لماذا اخترت أن أكون الآخر، لا أنا؟ لماذا وهبتُ كل ما أملك للزمن، ولم أحتفظ بشيء لي؟ أسئلة ومرايا صغيرة، كل واحدة تعكس وجهًا لي لم أجرؤ أن أراه.
وفي نهاية التغطية، عُدت إلى نقطة البداية، القرار لا يزال هناك، لكن الآن صار مفهومًا، التعيين كمراسل حربي داخل نفسي لم يكن عبثًا، كان ضرورة، لأن الإنسان، حين لا يروي حكايته لنفسه، تضيع، لأنه، حين لا يرصد جبهاته الداخلية، يُصبح خاضعًا لصوتٍ خارجيّ لا يخصه.
أنا لم أُنهِ تقريري بعد، الميدان لا يزال يعجّ بالحكايات، والكتابة ليست وصفًا لما حدث إنها صراع يوميّ للنجاة.