ياسر أيوب يكتب: مارى أنطوانيت والأمير عبدالله فى مدينة لييج

من كتاب بلدان على ورق
تأهل الأمير والفارس السعودى عبدالله بن متعب لدورة بكين الأوليمبية 2008 .. وتم تكليف شركة سترايكس فى القاهرة بإنتاج فيلم تسجيلى عن الأمير والفارس .. واختارنى الصديق هشام الخشن مالك الشركة لكتابة نص الفيلم واللبنانية ديانا عرب للإخراج .. وسافر الجميع فى شهر يوليو 2007 إلى مدينة لييج البلجيكية حيث كان يقيم عبدالله بن متعب فى معسكر خاص بالفروسية خارج المدينة .. وكان من المفترض أن ألتقى أولا بالأمير فى المعسكر لأسمع حكايته والحصول منه على إجابات لكل ما يخطر ببالى من أسئلة .. وكانت مفاجأتى الأولى أن عبدالله شاب بسيط ومهذب للغاية لا يتعامل مع أى أحد باعتباره من العائلة المالكة السعودية .. شاب فى الثالثة والعشرين من عمره ويعشق الفروسية ويتمنى أن يفوز فيها ببطولات يهديها لبلده وعائلته .. وفى أول حوار بيننا فى المعسكر .. كان عبدالله يواصل الحديث والإجابة على أسئلتى ولا يسمح لرنين تليفونه المتواصل بقطع الحوار .. لكنه حين نظر إلى تليفونه هذه المرة .. توقف عن الكلام وأجاب على الفور .. وكان من الواضح من إجاباته أن من يتصل به أراد الاطمئنان عليه وعلى تدريباته .. وحين طال وقت المكالمة .. قررت التدخل فجأة فى الحوار وطلبت منه إبلاغ سلامى لمن يتصل به .. وهو ما قام به بالفعل ثم أبلغنى سلام وتحيات من يتحدث معه تليفونيا .. وبعد نهاية المكالمة عرفت أن المتصل كان جده والد أبيه .. الملك السعودى عبدالله بن عبد العزيز آل سعود
وبعد نهاية حوارات اليوم الأول فى المزرعة مع عبدالله .. عدت مع الفريق إلى مدينة لييج وتركت ديانا مع المصوريين ومساعديها يضعون الخطوط الرئيسة للفيلم .. وقررت الخروج لمشاهدة مدينة لييج .. مدينة صغيرة هادئة على نهر ميوز أو ميز .. أو نهر ماس وفقا للإدريسى فى كتابه الشهير بعنوان نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق الذى ألفه فى سنة 1154 بطلب من روجر الثانى ملك صقلية .. وينبع هذا النهر من فرنسا ويعبر بلجيكا ويصل إلى هولندا ليصب فى بحر الشمال .. وتبعد لييج 33 كيلومترا عن هولندا و53 كيلومترا عن ألمانيا .. ولأن الفندق الذى أقمت فيه مع الفريق كان فى قلب مدينة لييج .. فقد كان من السهل والممكن رؤية أهم أشهر ملامحها .. ساحة القديس لايمبيرت والأوبرا وأطول سلالم فى بلجيكا كلها يمكن بعد صعودها رؤية كل تفاصيل وزوايا المدينة .. لكن تبقى الحكاية الأهم حين يدور الحديث عن مدينة لييج وأهلها وأبنائها هى حكاية الكونت فلرويموند دى ميرسى .. المولود فى مدينة لييج 1727 .. وانتقل إلى فيينا وبمساعدة صديقه أنطون فون كونيتز وزير الخارجية .. التحق فلوريموند بالسلك الديبلوماسى النمساوى وبعد مشوار طويل أصبح سفيرا للنمسا فى تورينو وسانت بطرسبورج وباريس .. وللعلاقة الطيبة التى جمعته بماريا تيريزا إمبراطورة النمسا .. فقد عهدت إليه الإمبراطورة برعاية إبنتها ماريا أنطونيا فون هابسبورغ لورين التى سيعرفها العالم كله فيما بعد بإسم مارى انطوانيت حين تزوجت فى 1768 وهى فى الرابعة عشر من عمرها ممن سيصبح الملك الفرنسى لويس السادس عشر .. وانتهت الحكاية بالثورة الفرنسية وتم إعدام الملك بقطع رأسه فى ساحة الكونكورد فى يناير 1793 .. وفى أكتوبر نفس السنة تم اقتياد مارى أنطوانيت فى سيارة مكشوفة تسير فى شوارع باريس وسط غوغائيين ألقوا عليها الحجارة والأوساخ وقصوا شعرها قبل إعدامها بالمقصلة وهى فى الثامنة والثلاثين من عمرها .. واكتشف العالم وقتها حالة نفسية جسدية هى تحول شعر الرأس المفاجىء للون الأبيض دلالة على ما قد يعانيه أى أحد من ظلم وعجزه عن الدفاع وإظهار الحقيقة .. فقبل موتها تحول شعر مارى انطوانيت كله إلى اللون الأبيض .. وأصبحت تلك الحالة تعرف فيما بعد بمتلازمة مارى أنطوانيت
وبعد عام واحد فقط من إعدام مارى أنطوانيت .. مات الكونت فلوريموند فى لندن دون أن يصغى إليه كثيرون وهو يحاول إثبات براءة مارى أنطوانيت من كل ما قيل عنها من أكاذيب وشائعات .. لكن براءتها ثبتت بعد وقت طويل جدا عبر كتب كثيرة أهمها كتاب مارى أنطوانيت ـ ماساة لا تنتهى للكاتب الإيطالى فى 1816 .. وكتاب مارى أنطوانيت ـ بورتريه لإمرأة عادية للكاتب والمؤرخ النمساوى ستيفان زفايج فى 1932 .. وبعدهما توالت الكتب والدراسات التى أكدت أن مارى أنطوانيت أبدا لم تقل للفرنسيين ان يأكلوا الكعك إن لم يجدوا الخبر .. وأنها لم تكن تقتنى آلاف الأحذية والفساتين الفاخرة .. وأنها لم تقم أى علاقات خارج الزواج .. ورغم ذلك لم تنتشر ولم تبق إلا الأكاذيب والشائعات .. فكثرة ترديد الأكاذيب يوما وراء يوم يجعلها أقوى من الحقائق .. ومعظم الناس فى أى مكان أو زمان يبنون أحكامهم وفق هواهم وليس وفق ما جرى بالفعل .. ولم يعتذر أبدا جان جاك روسو على كل ما قاله كذبا بشأن مارى انطوانيت حيث تخيل أن إلصاق وتكرار ونشر كل هذه الاتهامات الكاذبة بمارى انطوانيت كان ضروريا لإسقاط الملكية الفاسدة وإنجاح ثورة فرنسا
وإذا كان البعض يحبون وصف لييج بالمدينة السريالية بتداخل ألوان واجهات بيوتها القديمة مع الورود بين وحول هذه البيوت .. فالوصف الأكثر دقة وواقعية هو مدينة التاريخ والمجد الذى كان .. فاختفت أفران الصهر فى حوض لييج حين كانت المدينة أول منطقة صناعية فى أوروبا .. واختفت الكاتدرائية التى كانت شعار المدينة بعد أن قام أهل المدينة بتحطيمها حين تخيلوا ذلك انتصارا لليبرالية بعد قيام الثورة الفرنسية .. وحكايات أخرى كثيرة استعدتها وأنا عائد مرة أخرى إلى المزرعة التى يقيم فيها الأمير والفارس عبدالله حالما باستعادة بعض أمجاد فرسان العرب .. فمنذ وقت طويل جدا .. بدأ تاريخ العرب مع الخيول فوق هضاب نجد وعسير .. والأرجح أن البداية كانت مع إسماعيل ابن إبراهيم الخليل عليه السلام .. واشتهر نبى الله سليمان بحب الخيل فامتلك مائة وعشرين حصانا مسرجا إلى جانب ألف ومائتى حصان لجر العربات .. ويعد الحصان العربى هو الحصان الأجمل على سطح الأرض .. وهو إلى جانب ذلك يتميز بقدرته الهائلة على الصبر وتحمل الجوع والعطش وحرارة الجو وتقلباته .. وقد ساهمت الفتوحات الإسلامية فى نقل سلالة الحصان العربى من شبه الجزيرة العربية إلى مصر وبقية بلدان الشمال الأفريقى ثم القارة الأوروبية أيضا .. وبالنسبة للإنسان العربى القديم .. لم يكن الحصان مجرد وسيلة للتنقل أو للقتال بقدر ما كان الصديق والشريك .. ورفيق الدروب الموحشة بحثا عن الأمان أو الرزق .. ودونا عن سائر الحيوانات .. كان الحصان هو الحيوان الوحيد الذى يصطحبه العربى القديم معه إلى داخل خيمته .. يقتسم معه الطعام والحليب والماء .. وفى أحيان كثيرة كان الحصان أهم حتى من الولد .. كان الحصان هو التعبير الحقيقى عن الجاه والعز والمكانة .. بل إن أشهر الحروب العربية قبل الإسلام .. حرب داحس والغبراء .. لم تنشب أصلا إلا نتيجة لخلاف حول سباق بين فرس وحصان .. ومن شدة محبة العرب القدامى للخيول أن أشرافهم وكبارهم كانوا يحرصون على خدمتها بانفسهم .. ومن الأقوال العربية الشائعة أن ثلاثة لا يأنف الإنسان من خدمتهم .. الولد والضيف والفرس .. وتوالت وتعددت ابيات الشعر العربى القديم التى تتغنى بالخيول وصفاتها وجمالها .. ومن أشهر فرسان العرب ربيعة بن مكدم .. وعنترة بن شداد .. وعتيبة بن الحارث .. وعامر بن مالك .. وعامر بن الطفيل .. والمهلهل بن الربيعة .. ودريد بن الصمة .. وأبو محجن الثقفى
وقد كان عبدالله ممن ذابت الفوارق وتلاشت داخله بين الأمير وبين الفارس .. فغرامه المبكر بالخيول .. وحكاياتها وبطولاتها التى يحفل بها تاريخ العرب وبالتحديد فى أرض شبه الجزيرة العربية .. جعله يدرك أن الفارس الحقيقى لابد أن يكون هو الإنسان الحقيقى .. وأن يصبح النبل والبساطة والكرم والكبرياء واحترام الذات وكل الآخرين هم الصفات الأساسية التى لابد منها قبل امتطاء ظهر أى جواد .. واعتبر عبدالله أن خيوله هم أصدقاؤه الحقيقيون إلى جانب مساعديه الذين تحدثت كثيرا معهم .. نورين بيلى وإدارة المزرعة .. وأدريانو فيريتاس وسلامة الخيول ورعايتها والمحافظة عليها .. ومارى سيدريك وعلاج الخيول .. وكانت أياما جميلة فاضت بحكايات الفروسية والخيول وتاريخها وبطولاتها وحكاياتها التى كانت وستبقى حافلة بدروس العطاء ونبل الأخلاق والكبرياء العظيم .. وكيف نجح الإنسان فى ترويض الخيول ويكتشف لها أدوارا أخرى غير أن تكون زادا له ولصغاره .. وبمرور السنين .. باتت الخيول وسيلة للتنقل ولنقل الحمول وللصيد أيضا .. ثم جاء أوان باتت فيه الخيول هى الأسلحة والعتاد العسكرى .. وهو ما خلق رياضة جديدة اسمها الفروسية .. وفى البداية لم تكن هناك فوارق واضحة بين المقاتل وبين الفارس .. فكان العسكريون الكبار هم فرسان عظام فى نفس الوقت .. هانيبال وجانكيز خان وعنترة بن شداد وخالد بن الوليد .. وقد بقيت الخيول أحد أسلحة الجيوش المتحاربة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية التى شهدت أكثر من مليونى حصان شاركوا فى هذه الحرب مع الجيش الروسى .. أما الفروسية كرياضة .. فقد بدأت قبل ألفى وخمسمائة عام .. فى بلاد التيبت .. حيث ولدت لعبة البولو .. ثم بدأت الفروسية كأحد الألعاب الأوليمبية القديمة فى اليونان عام 680 قبل الميلاد .. ولكن على شكل سباق للعربات التى تجرها الخيول .. أما سباق الخيول نفسها .. فقد بدا عام 624 قبل الميلاد .. وفى التاريخ الاوليمبى الحديث .. لم تظهر الخيول إلا فى الدورة الأوليمبية الثانية التى استضافتها باريس عام 1900 .. حيث تم إدراج لعبة البولو كأحد الألعاب الأساسية فى تلك الدورة الأوليمبية .. أما الفروسية فلم تظهر فى الدورات الاوليمبية إلا بداية من دورة استكهولم عام 1912 .. وكان الفارس السعودى خالد عيد هو صاحب أول ميدالية فروسية اوليمبية يفوز بها العرب فى دورة سيدنى الأوليمبية عام 2000 .. وانتهت أيام لييج بالسفر إلى بروكسيل بالقطار من محطة جار دى لييج التى تم اخنيارها فى قائمة أجمل محطة القطارات فى العالم



