شحاته زكريا يكتب: مصر وفلسطين.. حين تتقاطع الرؤية الشعبية مع هندسة السياسة

على مسرح السياسة الإقليمية تقف مصر اليوم بثبات نادر في وجه عواصف متلاحقة تعصف بالقضية الفلسطينية، مقدمة نموذجا فريدا في الموازنة بين التزامات الدولة ومطالب الشعوب ليس خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في قمة بغداد مجرد تصريح بروتوكولي بل إعادة تموضع مقصودة ضمن سياق دولي مضطرب تسعى فيه القاهرة إلى ترسيم حدود معادلة جديدة للسلام في الشرق الأوسط لا تقف عند حدود التطبيع ولا تكتفي بإدانة الانتهاكات بل تدفع باتجاه تصور شامل لجذر الصراع.
الرؤية المصرية تعود بجذورها إلى منطق بسيط لكنه مهمل: لا سلام دون عدالة ولا أمن دون اعتراف متبادل ولا استقرار دون دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67. المفارقة أن هذا الموقف الذي قد يبدو أخلاقيا أو عاطفيا هو في حقيقته تعبير عن براجماتية استراتيجية. فالحفاظ على الاستقرار الإقليمي لم يعد ترفا بل ضرورة وجودية في عالم يعاد تشكيله على وقع الحروب بالوكالة والانكشاف الأمني.
ما لفت الانتباه في خطاب الرئيس لم يكن فقط تمسكه بحل الدولتين بل استدعاؤه لتجربة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في تلميح ذكي إلى ضرورة وجود وسيط دولي ضامن له ما يكفي من الرصيد الأخلاقي والسياسي لفرض تسوية عادلة. وهذه ليست إشارة رمزية بل دعوة صريحة لواشنطن لاستعادة دورها كصانعة اتفاقات كبرى ، لا كمجرد طرف يُمسك الميزان لصالح حليف دائم.
الرؤية المصرية تنطلق من فهم دقيق للتحولات الجارية: الشارع العربي ومن خلفه جزء متزايد من الرأي العام الغربي، لم يعد يطالب فقط بوقف الحرب بل بتفكيك البنية الجذرية للظلم. مشاهد القمع في الجامعات الأمريكية والاحتجاجات الحاشدة في أوروبا ليست تعبيرا عن تعاطف لحظي ، بل مؤشر على انزياح في الموقف الأخلاقي العالمي تلتقطه القاهرة وتحوله إلى ورقة ضغط سياسية ناعمة.
إن ما تفعله مصر في هذا الملف لا يمكن اختزاله في الوساطة أو التهدئة. نحن أمام دبلوماسية جديدة تستعيد أدوات "الهندسة الكبرى"، وتتحرك بين المتغيرات لا وراءها. دبلوماسية تضع التطبيع في حجمه الطبيعي: وسيلة لا غاية شرطه عدالة لا صفقة وأفقه أمن إقليمي لا مكاسب فردية.
بهذا المعنى يصبح خطاب بغداد فصلا جديدا في سردية عربية قيد التشكل. سردية لا تتوسل العدل بل تفرضه ولا تنتظر الحلول من الخارج بل تسهم في صناعتها. وبين كل هذا تضع مصر نفسها كقلب للمعادلة ، ومفتاح لحل قديم يبحث عن توقيت جديد. فهل يلتقط العالم الإشارة؟