الطريق
الجمعة 27 يونيو 2025 10:20 مـ 2 محرّم 1447 هـ
جريدة الطريق
رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس التحريرمحمد رجب
جوتيريش: عمليات الإغاثة التي تدعمها أمريكا في غزة غير آمنة ترامب: وضعنا 60 مليار دولار في مصانع جديدة شاهد| مستشار القانون الدولي والفيزياء النووية: لا يمكن القضاء على البرنامج النووي الإيراني بمجرد قصف المنشآت شاهد| المطرب أمين سلطان يطرح أغنيته الجديدة ”أجمل كلمة” بمذاق لبنانى شاهد| نيللي كريم عن مشاركتها ”هابي بيرث داي”: انجذبت للفكرة من أول سطر وزيرة التضامن الاجتماعي تتابع تداعيات حادث الطريق الإقليمى بالمنوفية.. وتوجه بتقديم الدعم لأسر الضحايا المركز الإعلامي لمجلس الوزراء: الجامعات الحكومية مملوكة للدولة ولا نية لخصخصتها الصحة: فحص 3.7 مليون شاب وفتاة ضمن مبادرة «فحص المقبلين على الزواج» منتخب سيدات السلة يواصل استعداداته للبطولة العربية بقيادة الإسباني جوليان مارتينيز أيمن رفعت المحجوب يكتب: الدخل النقدي خدعة (١) العارف بالله طلعت يكتب: هجرة الرسول واختيار الصديق الوفي ︎اتصال هاتفى بين وزير الخارجية والهجرة ونظيره الفرنسي

شحاته زكريا يكتب: مصر ومرحلة التحوط الاقتصادي.. ما وراء السياسات الهادئة

فى عالم يتغير كل صباح لا تبدو القرارات الاقتصادية مجرد رد فعل مباشر للحدث، بل خطوات محسوبة ضمن خريطة طويلة المدى وفى هذا السياق يمكن فهم ما تشهده مصر حاليا من حراك هادئ، يبدو فى ظاهره متزنا وفى جوهره مرحلة متقدمة من التحوط الاقتصادي أمام موجة من التحديات العالمية والإقليمية المتداخلة.

فلم يعد التحوط مجرد إجراء مالي لإدارة المخاطر بل أصبح فلسفة سياسية اقتصادية متكاملة، تتطلب ضبط إيقاع الدولة بما يتجاوز اللحظة.

مصر التى تخطت أزمات معقدة خلال العقد الأخير من اضطرابات سياسية إلى تحديات اقتصادية ثم جائحة عالمية، باتت اليوم فى لحظة مراجعة عميقة مراجعة لا تعنى التراجع بل تعنى التمهّل الواعي وإعادة ترتيب الأولويات كى لا يُبنى المستقبل على حساب الحاضر ولا يُستهلك الحاضر دون رصيد من الطمأنينة.

فى خضم مشهد دولى سريع التحول من الحروب الجيوسياسية إلى أزمات الطاقة والغذاء والتضخم، اختارت مصر أن تُخفض صوت الصخب وتُعلي صوت التخطيط. بدا ذلك واضحا فى سياسة ترشيد الدعم وتوجيه الموارد إلى القطاعات الإنتاجية، وإعادة هيكلة بعض المشروعات الاستثمارية الكبرى بل وتوقيع شراكات جديدة تخضع لمعايير الجدوى الاقتصادية لا فقط الرمزية السياسية.

ورغم أن البعض قد يقرأ الهدوء الاقتصادى على أنه تباطؤ فإن النظرة الأعمق تكشف أن ما يحدث هو أشبه بإعادة تموضع استراتيجى على مستوى السياسات. تحريك ملف الطاقة الخضراء ، إعادة صياغة العلاقة مع المستثمر المحلى والدولى ، فتح الباب أمام استثمارات عربية نوعية إعادة هيكلة أصول الدولة كلها مؤشرات على أن الدولة لا تتراجع بل تُعيد الإمساك بالمقود وفق موازين جديدة.

التحوط هنا لا يعنى التقشف بل يعنى الانضباط. لا يعنى التردد بل يعنى التبصر. مصر فى هذه المرحلة تبدو كمن يعرف أن العاصفة قادمة لكنه لا يُشيع الذعر بل يبدأ بهدوء فى تحصين البيت وترميم السقف وتأمين المخازن، وتحديد مساحات الحركة الممكنة دون تهور أو اندفاع.

إن ما يُحسب لمصر فى هذه اللحظة أنها تُجرى هذه التحولات دون صخب ، فى وقت تتجه فيه دول عديدة إلى اتخاذ قرارات انفعالية تحت ضغط الأرقام أو الرأى العام. ففى مصر تُدار الملفات الحساسة — من سعر الصرف إلى طرح الأصول — بصيغة مرنة لا تُغلق الباب أمام التصحيح ولا تُشعل النار داخل النظام الاقتصادى. وهذا التوازن الدقيق لا يأتى صدفة ، بل هو نتاج خبرة مؤسسية وسياسية تراكمت عبر سنوات كانت فيها البلاد فى اختبار مستمر.

إن تأمين الاقتصاد المصرى الآن لم يعد فقط مرهونا بإجراءات آنية بل بمدى القدرة على توقع الصدمة قبل وقوعها وبناء قواعد من المرونة الهيكلية تمكّنه من امتصاص الاهتزازات دون فقدان التوازن. ومن هنا تبرز أهمية الاستثمار فى الإنسان وفى القطاعات الإنتاجية ، وفى البنية التحتية المعرفية وفى تشجيع ريادة الأعمال واحتضان الاقتصاد الرقمى.

الرسائل الصامتة فى المشهد المصرى كثيرة. انخفاض معدلات الاستيراد من بعض السلع غير الأساسية صعود قطاعات بعينها كالأدوية والتكنولوجيا الزراعية ، تحرك منظم نحو التمويل الأخضر وهدوء محسوب فى ملف الدَين العام. كل هذا يشير إلى أن هناك ما يُبنى فى صمت وأن السياسات الهادئة ليست غيابا عن الفعل ، بل حضور من نوع آخر أقل ضجيجا وأكثر عمقا.

ولا يمكن تجاهل أن هذا التحوط الاقتصادى يأتى فى ظل محيط إقليمى بالغ التعقيد. الصراع فى البحر الأحمر وتحولات الشرق الأوسط وتغير أولويات الشركاء التقليديين كلها عوامل تجعل من الصعب خوض مغامرات اقتصادية دون حساب. ومن ثم فإن مصر — دون أن تعلن ذلك صراحة — تُدير ملفاتها الاقتصادية كما تُدار الملفات الأمنية: بأقل قدر من الانكشاف وأقصى قدر من المرونة.

فى مرحلة كتلك لا يُقاس النجاح بالشعارات بل بالقدرة على البقاء واقفا عندما يميل العالم. ولا يُقاس الحضور بحجم الإعلان بل بمدى التأثير فى موازين الاستثمار والثقة. ومصر— حتى الآن — تبدو فى موقع أفضل مما يتوقع كثيرون لأن قراراتها تنبع من قراءة عميقة للمشهد ، لا من رد فعل مباشر على سطح الحدث.

فى النهاية فإن ما نراه اليوم من سياسات هادئة فى ظاهرها، هو مشروع كبير فى جوهره. مشروع عنوانه التماسك وأداته العقل وهدفه أن تُبنى التنمية على أرض صلبة لا على موجة مؤقتة. ومع الوقت سيتضح أن الهدوء لم يكن تراجعا بل كان استراحة استراتيجية لرسم طريق أكثر استدامة.

موضوعات متعلقة