الطريق
جريدة الطريق

الثلاثي محمد رشدي وعبد الرحمن الأبنودي وبليغ حمدي.. نجاحات كتب نهايتها العندليب

محمد رشدي وحليم
عبد الفتاح العجمي -

محمد رشدي.. لسان الفلاحين وصوت الطبقة الكادحة الذي ذاع صيته في أقصى شمال المحروسة بليالي مولد سيدى إبراهيم الدسوقي وهو لا يزال صبيًا، غزا العاصمة في شبابه مع بداية الخمسينيات ليُصبح ابنًا لثورة 23 يوليو وأحد المعبرين عنها، احتل مكانة رفيعة في تاريخ الموسيقى المصرية والعربية بفضل ما قدمه من أعمال ذات طابع شعبي، وتناول فى أغانيه معانى جديدة ولاقى قبولًا جارفًا.

الشاب محمد محمد الراجحى، المولود فى 20 يوليو عام 1928، بمدينة دسوق بمحافظة كفر الشيخ، لأسرة متوسطة الحال، نشأ وترعرع فى وسط دينى، حفظ القرآن الكريم منذ الصغر، وفي المسجد ولفت الأنظار إلى صوته، وما أن انتهى من دراسته الثانوية عام 1948، حتى انتقل إلى القاهرة ليبدأ مشواره الفنى بمعهد الموسيقى العربية، وكان من بين زملائه محمد الموجي وفؤاد حلمى، ودرس التواشيح على يد الشيخ درويش الحريرى، والعود على يد منصور عوض.

اقرأ أيضا| نجل محمد رشدي يكشف عن أكبر الأزمات في حياة والده الراحل

عاش محمد الراجحي فى العاصمة حياة صعبة، حتى سمعه الإذاعى على فايق زغلول، فشجعه على الالتحاق بالإذاعة، وبالفعل تقدم للاختبار ومعه المطرب الشاب عبد الحليم شبانة الذى أصبح فيما بعد عبد الحليم حافظ، وتقرر أن يُسجل أغنية تجيزها لجنة مكونة من "أم كلثوم، محمد القصبجي، ومحمد عبد الوهاب"، وتجاوز الاختبار بنجاح، وقدّم أولى أغانيه وهى "قولوا لمأذون البلد" التى حظيت بشهرة كبيرة.

عندما غنى الراجحي للمرة الأولى للإذاعة كان الفنان سعد عبد الوهاب وقتها مراقب الموسيقى والغناء، فما كان منه بعد انتهاء محمد من الغناء إلا أن قال لجمهور المستمعين: "استمعتم للمطرب محمد رشدى"، ذلك الأمر أغضب الأخير، وقال: "ليه كده يا أستاذ عبد الوهاب؟"، فرد عليه عبد الوهاب إن اسم محمد رشدى أكثر سلاسة، ومن يومها أصبح اسمه.

وفى عام 1961، كان أول من غنى فى الإذاعة الملحمة الشعبية "أدهم الشرقاوي" بعد طلب من رئيسها أمين حماد، وكتبها الشاعر محمود إسماعيل، وأخرجها يوسف الحطاب، وغنى رشدي 85 موالًا من ألحانه تروى حكاية ذلك البطل الشعبى فحقق شهرة كبيرة وأصبح العمل من الكلاسيكيات.

مسيرة محمد رشدى بلغت ذروتها عندما التقى الرائعين عبد الرحمن الأبنودي شاعرًا، وبليغ حمدى ملحنًا، وكان هذا سبب لبداية بزوغ نجم الأغنية الشعبية، حيث كونوا معًا فريقًا أثمر عن العديد من الأغنيات التى لا زال يتردد صداها حتى الآن، مثل: "تحت الشجر يا وهيبة، بلديات، وسع للنور، يا ناعسة، خبريني".

يتحدث الأبنودي عن رشدي قائلا: "أنا بعد ما سمعت موال (أدهم) تأكدت إنه الوحيد اللى عنده القدرة يغنى أشعارى"، ويعلق رشدى: "كانت كلماته دليل على ذكائه الصعيدى، هو عارف كلمته تبقى إيه، ومين الصوت اللى يقولها بصدق، ومين اللى الناس تصدقه لما يغنيها، الأبنودى اتكلم عن حاجات كتير،عن أحلامه الكبيرة للأغنية، قالى المرحلة دى بتاعتك أكتر من عبدالحليم حافظ، المرحلة محتاجة أغنية للناس، أغنية فيها الفلاح والعامل والبسيط والفقير، أغنية تتكلم عن مشاعرهم وعواطفهم، وأنت اللى مؤهل لهذا الدور، فيك حاجة تخلى الناس الغلابة تصدقك".

اقرأ أيضا| ”خايف اتنسي”.. نجل محمد رشدي يكشف الرحلة الأخيرة والقاسية في حياة والده

أضاف: "الأبنودي كلمنى بصوتى، كان عنده نبوءة الشعراء، وأنا عندى طلقة عايزة تطلع، عندى حلم مؤجل، هو كان عنده حاجة مختلف عن الموجودين على الساحة، وفى نفس الوقت كنت محتاج كلامه، ورغم إنى أكبر منه فى السن، لكن ثقافته وموهبته حالة نادرة، شاعر حس فعلا بأوجاع بلده، وغرقه فى بيئته الصعيدية، وأنا فلاح من دسوق وعارف يعنى إيه واحد يرتبط ببيئته، مصر عاشت على نوعين من الغناء، غناء فى الحوارى والغيطان، وغناء الصالونات الموجه إلى فئة معينة، وهذا النوع كان هو الرسمى، وسيد درويش استثناء لأنه غنى وهو عارف بيغنى لمين، وجاء الأبنودى ليجعل غناء الحوارى والغيطان على كل لسان".

وفي أحد اللقاءات بالتليفزيون المصري التي جمعت عبد الرحمن الأبنودي ومحمد رشدي، أكد الأول على عمق علاقة الصداقة بينهما، والتى نشأت لتقارب نشأة الاثنين، وعن صوت رشدي قال الأبنودي: "هو صوت من الأصوات الجميلة، من الأصوات الحقيقية، فهو حين يغني يبعث الريف، ويبعث حارتنا الشعبية الحقيقية، أقدر أقول أن محمد رشدي هو صوتي، ولولا وجود رشدي ما كتبت هذه الأغنيات، حين سمعت صوته في (أدهم الشرقاوي) و(قولوا لمأذون البلد) أحسست أن إمكانياته أكبر من هذه الأغنيات، أى أن صوته أوحى لى بالأغنيات التي كتبتها له فيما بعد، وكان أول أغنية كتبتها لرشدى (تحت السجر يا وهيبة)"، وعقب رشدي: "بظهور الأبنودي تحددت شخصيتي الفنية، وخلق لي لغة جديدة للغناء، وحين انضم إلينا بليغ اكتملت التجربة".

وحقق الثلاثى رشدى والأبنودى وبليغ نجاحًا ساحقًا بلغ قمته فى أغنية "عدوية"، التى اجتاحت بألحانها كل حارة مصرية آنذاك، وما أن وصلت إلى أسماع عبد الحليم حافظ أثارت غيرته، وعلى الفور تواصل حليم مع الأبنودي وطلب منه أغنية بنفس اللغة، فأعطى له "توبة" شريطة أن يُلحنها بليغ، وهو ما تم بالفعل، وامتدت غيرة حليم إلى منع بث أغنية "حسن المغنواتى" لرشدي فى الإذاعة، بحجة أنها تقتبس جملة من أغنية "توبة".

بعدما تمكن عبد الحليم حافظ من الاستحواذ على شاعره الأبنودى، وملحنه بليغ، ظل رشدى يبحث عن بدائل، ومن أهم أغانيه فى تلك الفترة "عرباوى"، والتى لحّنها الموسيقار حلمى بكر، وكتب كلماتها الحلاق حسن أبو عتمان، وغنى رشدى أكثر من 600 أغنية ما بين الشعبى، والعاطفى، والدينى، والوطنى، وصدر له 25 ألبومًا غنائيًا، آخرها بعنوان "قطر الحياة" عام 2004.

اقرأ أيضا| عفاف مصطفى تعتذر لعبد الرحمن أبو زهرة: ”هو في أب بيزعل من ولاده”

وفى أبريل عام 2005، وبينما رشدي فى مدينة الإنتاج الإعلامى لتصوير آخر أغنياته "قطر الحياة"، أُصيب بالتهاب رئوى وتم نقله للمستشفى، وظل أكثر من 30 يومًا بالعناية المركزة، وفى مساء 2 مايو 2005، فارق دنيانا، وتم تشييع جثمانه فى اليوم التالى إلى جوار مدفن عبد الحليم حافظ.

وفي الجنازة، علا صوت الأبنودى باكيًا صديق العمر محمد رشدى، وأدى الصلاة مع الجموع فى مسجد مصطفى محمود، وأصر على حمل النعش مع الآخرين، ووضع بيديه صندوق الجثمان فى سيارة الموتى، وفور أن تحركت السيارة انفجر باكيا: "مع السلامة يا محمد.. مع السلامة يا حبيبى.. السلام أمانة لبليغ".