الطريق
الأحد 19 مايو 2024 07:48 مـ 11 ذو القعدة 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

سر علاقة أم كلثوم وبلاد الأرز الذى أبقاها مبتسمة وصامدة بين ركام انفجار بيروت

صورة أم كلثوم بين الركام بعد انفجار مرفأ بيروت
صورة أم كلثوم بين الركام بعد انفجار مرفأ بيروت

4 أغسطس 2020 اليؤم المشؤم، تلك الليلة التي ستخلد في كتب التاريخ بأنها من أسوء وأحلك وأحزن الليالي التي مرت على سيدة المدن العربية "بيروت"، كان الزمن يقرب على الغروب، الناس كل منهم ينشغل بحكاياته، حتى دقت ساعة الانفجار المزدوج بالمرفأ الغامض، ليجتمع كافة العالم على حكاية واحدة تفطر القلوب وتبكى الأعين.

ثوان مرعبة مرت على عاصمة بلاد الأرز، من كان يلهو، أو ربما يستمع إلي الموسيقي، أو حتى يشاهد التلفاز أو يتسامر مع صديقه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو يعمل، أو كان نائمًا، في كل الأوضاع غطت غيوم الانفجار نهار سكان المدينة.

زلزال مروع، هزة، جعلت كل هؤلاء يستفيقون خلسة على مشهد لم يكن في مخيلتهم، باتت بيروت بمبانيها الشاهقة وأبراجها المرتفعة وأزقتها وشوارعها مجرد أنقاض وركام وحطام، باتت لاشئ بعد أن كانت كل شئ.

اخذ الخبر في الانتشار الواسع عبر العالم، حيث كتبت الصحف وغطت القنوات التلفزيونية والأذاعية الكارثة التي راح ضحيتها حتى هذه اللحظة أكثر من 200 شخص، وأكثر من 5 آلاف مصابًا، بخلاف ما لم يتم كشفه عن المفقودين، وما زال البحث مستمرًا.

خلفت الكارثة مشاهد عدة أخذت حيذا كبيرًا من الرواج بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي عبر العالم، كان من ضمن هذه المشاهد، صورة لكوكب الشرق أم كلثوم التقطها المصور اللبناني إيهاب فياض، اثناء توثيقه لحظات الدمار والخراب الذي خلفتها الفاجعة، في أحد منازل لبنان العتقية، بدت سيدة الغناء العربي مبتسمة بين الركام لم تسقط رغم قوة الانفجار، بقيت صامدة رغم التوائها الخفيف، وكأنها ترمز إلي لبنان.

كانت صورة أم كلثوم من بين عدة مشاهد دعت إلي الأمل رغم الانكسار والجرح الغائر في قلوب اللبنانيون، وبالنبش في ما مضى، تجد أن هناك ثمة علاقة وطيدة تتسم بالحب بين أم كلثوم وبلاد الأرز، حيث أقامت كوكب الشرق حفلات عديدة بلبنان امتلأت بأحداث غريبة ومشوقة.

بدأت رحلات سيدة الغناء العربي إلي لبنان بدعوة شخصية من الثري "مصطفى عز الدين" لتغني في عرس نجله واصف مقابل ألف ليرة عثمانية من الذهب، حضرت أم كلثوم من القاهرة وأحيت الحفل الذي اقتصر على عدد محدود من الأشخاص، واحتار المؤرخون في تحديد هذا العام أكان 1927 أم 1928.

عقب الزيارة الأولى لأم كلثوم بلبنان بعدة سنوات، تعاقد معها متعهد الحفلات اللبناني أحمد الجاك الذي أنشأ مقهى كبيرا وأسماه كوكب الشرق، كان الجاك هائمًا بها، حيث أقدم على إعداد حفل عشاء مخصوص لها، دعا إليه أصدقائه وغنت الست و سحرت الحضور بصوتها الطربي، فقام أحد القرويين بإلقاء نفسه في الماء وانتشله باقي رفاقه الذين تجمعوا لسماع صوتها الطربي.

وتعد الزيارة الأشد ألما في نفس أم كلثوم للبنان التي كانت في عام 1945 حيث منعت من الغناء في حفل زفاف الأمير طلال بن عبدالعزيز على مني كريمة رئيس وزراء لبنان بعد أن دعيت لإحياء الحفل، وذلك عقب برقية ارسلها الملك سعود لشقيقه طلال بعدم الغناء في حفل الزفاف لأن ذلك يتنافى مع تقاليد المملكة، لكن نقابة الموسيقيين اللبنانية احتوت الأمر سريعاً وأقامت حفلاً بفندق الكابيتول ليلة 29 أكتوبر حضره رئيس الوزراء اللبناني سامي الصلح ولفيف من المثقفين والسياسيين والفنانين والشعراء.

ووجدت أم كلثوم نفسها في جو مفعم بالحضور ومهيأ للطرب، وهنا بدأ جورج إبراهيم الخوري يحث صديقه سعيد فريحه أن يدفع أم كلثوم للغناء، نظر فريحه إليها وتبسم ثم قال لها :"يا ظالمني"، فسألته الست:"مين اللي ظلمك"، فأشار بيديه الإثنتين:"صاحبة العصمة"، فقالت له: "فين الفرقة، وفين بتوع الإذاعة ؟عاوزه أذيع الحفل على الهوا"، وكان من المعروف عن أم كلثوم أن لها شروطا وأجرا إضافيا عند إذاعة حفلها على الهواء.

وفي عام 1955 أحيت الست حفلتين حضرهما خليطاً من اللبنانيين والسوريين والسعوديين والكويتيين وأتت المطربة سعاد محمد من دمشق لحضور حفلًا منهما كما تواجدت أيضاً الفنانة مريم فخر الدين، ويذكر أن هذه الرحلة حصلت فيها أم كلثوم على أعلى أجر حيث حصلت على 60 ألف ليرة.

ونشرت إحدى المجلات الفنية آنذك تقريراً عنوانه ساعة غناء من أم كلثوم تساوي عشرة آلاف ليرة، وعن حال المواطن الذي لم يتمكن من حضور الحفلتين فقد راسل الكثيرون محطة الإذاعة اللبنانية عن موعد بث الحفلتين فلم تجبهم نظراً لعدم إذاعة الحفلتين لأن أم كلثوم طلبت مبلغًا خياليًا يقارب ميزانية الإذاعة طوال السنة.

ومن طرائف حفلات أم كلثوم بلبنان عام 1964حينما علمت بانتظار حشود كبيرة من الجماهير أمام باب سينما ريفولي الرئيسى حيث تقيم الحفل وذلك لرؤيتها وتحيتها، خشيت أن يحدث هجوم عليها، مما جعلها تدخل السينما من الباب الخلفي هاربة من الجماهير حسب وصف جريدة الحياة اللبنانية.

وصعدت إلى المسرح، وما إن بدأت الفرقة فى العزف، وبدأت ثومة الغناء حتى تيقن الجمهور المنتظر بالخارج بهروب أم كلثوم منهم ولم يتمكن الكثير منهم الدخول بسبب ازدحام المسرح، وظلوا فى الخارج حتى الساعة الثالثة صباحاً، وعوضوا بمشاهدتها وهى تخرج والتفوا حولها لتحيتها وحيتهم وتبسمت لهم.

ومن طرائف الحفل الثاني في هذه الرحلة أن المطربة هيام يونس علمت بقدوم أم كلثوم لإحياء الحفل بسينما ريفولى، وكانت ترتبط بحفل لها فى نفس الليلة ففضلت أن تحضر حفل الست أولاً، وحسب قولها للتليفزيون الكويتى انسجمت مع أغنية حيرت قلبى وظلت تصرخ مع كل مقطع "الله الله الله" حتى ذهب صوتها واضطرت أن تلغى حفلها.

وقبل أن تغادر أم كلثوم لبنان ذهبت إلى مشغل مدام صالحة للملابس اللبنانية النسائية لانتقاء بعض الفساتين، ورغم عطلتهم يوم الأحد فقد تم فتح المشغل خصيصاً لها وضج المشغل بالعاملات وكل من أتاه الخبر فى شارع بشارة الخورى حتى التفوا حول البناية فى حصار شديد لرؤية أم كلثوم عند خروجها من المشغل.

وعن أتعس رحلات أم كلثوم فكانت 5 سبتمبر 1965 حيث وصلت إلى مطار بيروت بصحبة مدير أعمالها ابن شقيقها والجاك متعهد حفلاتها، وعند استراحتها فى صالة الوصول تبين أن جواز سفرها يخلو من تأشيرة العمل المفروضة، وعلى الفور اتصل الأمن العام بالمدير وسوى الأمر وقدم لها الترحاب.

وعن ذكريات حفل هذه الرحلة فقد كان من المقرر أن يبدأ فى التاسعة، اكتظ المسرح بالجمهور ولكن أم كلثوم لم تأتِ ولم يفرج الستار، فبدأ الضجيج والهتاف يعلو ولم يكن الجمهور يعلم أن أم كلثوم ما زالت فى الشارع لا تستطيع الوصول للمسرح بسبب حريق شب فى إحدى السيارات.

وصلت أم كلثوم إلى مكان الحفل بعد معاناة وما إن صعدت إلى المسرح فى الحادية عشرة وجدت مشكلة أكبر، فقد نشبت معركة بين الجمهور بسبب التكدس وحدثت أكثر من مشكلة بسبب الكراسى التى تطايرت فوق الرؤوس، تمالكت أم كلثوم نفسها ويذكر أنها لم تسيطر على نفسها فى حياتها مثلما بدت فى ذلك الحفل، انتظرت حتى هدأ الجميع، وبدأت فى الغناء وبعد قليل تعطل الميكروفون فراحت تشدو وتبدع غير مبالية، ويروى المراقبون لذلك الحفل أن لو أم كلثوم انسحبت فى تلك الليلة بعد كل تلك الأحداث لقامت مذبحة بين الجمهور.

غلاوة أم كلثوم لدى الشعب اللبناني كانت غالية للغاية، لدرجة أنها كانت السيدة الوحيدة في الشرق الأوسط التي فتحت لها أبواب قلعة بعلبك لتدخل بسيارتها الرولزرويس في حفل يوليو 1966، والتي وضعت لخدمتها حتى مدخل خيمة الحفل.

وركزت كل الصحف اللبنانية والمصرية آنذاك على الأجر الخيالى للحفلتين اللتين أقامتهما فى قلعة بعلبك للمرة الأولى، حيث تقاضت هي وفرقتها 80 ألف ليرة، أى ما يوازى ما استوردته مصر من التفاح من لبنان فى عام كامل، إن لم يكن يزيد بعشرين ألف ليرة.

لم تنسى بلاد الأرز أم كلثوم قط، فبعد 48 عاما على آخر ظهور لها في قلعة بعلبك الأثرية، اعتلى طيف الفنانة الراحلة أم كلثوم معبد باخوس على مدارج المدينة، حيث ارتفعت صورها عاليا لتعلن الانطلاق الرسمي لمهرجانات بعلبك الدولية عام 2018. واختارت إدارة المهرجان أن تفتتح موسمها الجديد بتوجيه تحية إلى روح فنانة بقيت ذكراها وأحيت حفلات لا تنسى في بعلبك أعوام 1966و1968 و1970.

ربما يكون كل هذا الحب الذى لاقته أم كلثوم في كل زيارة، أو حفلة أو رحلة للبنان في حياتها، أو تكريمها وإحياء ذكراها بعد وفاتها، كان السبب وراء أن ترد الست شيئًا من الحب وتبقي صامدة وقوية بين الركام رغم التواء الصورة، لتبعث برسالة إلي لبنان بأنها ستقوم وتنهض وتبتسم من بين كل هذا الركام.