الطريق
السبت 20 أبريل 2024 04:28 مـ 11 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

قصة| منابت الشوك

الكاتبة عزة أبو الأنوار
الكاتبة عزة أبو الأنوار

حملت أمي في اثني عشر شهرًا.. غاب أبي عامًا كاملًا وكأني كنت أنتظر عودته لأُولد، ولما يئسَتْ أمي من رجوعه وُلِدت. فأيقنَت جدتي لأبي أنني ابنة شيطان، وهو ما جعلني أبدأ الحياة مولودة بلا أصابع. ولم ترَني ثانية بعد يوم ولادتي، حتى غابت.

نصحت القابلة بتوصيل أصابع رجل ميت، أو كلب. قالت أم أمي إنني لم أُشفَ لأن أمي لم تضع سكينًا تحت مخدتي يوم السبوع، وقالوا لأن أمي عصت كلام راهب الدير الذي قال ببركة تراب الدير الشافي. أما الجارة فأخبرت أمي بشَربة من منقوع ورد مقطوف لتوِّه، ودهْن جسمي بزيت الصبار، وأعطتها تعويذة تقرؤها في أثناء ما تدهن منابت أصابعي. صدقت أمي في التعويذة. ولأن قريتنا جدباء كان الصبار نابتًا على كل أرض وعلى مداخل البيوت.

أما منقوع الورد فلم تجد أمي وردًا طازجًا، فنقعت ورد الصبار ودهنتني بزيته، وتلت التعويذة. عرفتُ بأمر التعويذة بعد سنوات لما وجدتها تحت منامة جدتي. لم أفهم كل ما كُتِب في الورقة، كانت أكلتها القراضة والتراب والأيام والنسي.

وبقي منها: "يا الولي.. أعيذها من شر الخفي والجلي.. من العلو والدني ... اجلب لها الأنس بلا ناس، والفكر بلا وسواس، وإقدام بلا خنَّاس.. حمِّلها الأمانة وزِدها كمالاً...".

الوصفة والتعويذة أنبتتا لي أصابع من شوك.

ماتت أمي وأنا في الخامسة، أخبروني أنها ماتت بالوباء الذي أكل نصف أهل قريتنا، لكني فهمت وحدي أنها ماتت مسمومة بشوكة صبار سقطت من أصابعي في البئر.

راهب الدير أخبر أم أمي أن رمل الدير الطاهر شافٍ، فدفنوا ذراعَي فيه فأنبتتا صبارات صغيرة انتشرت في ساحة الدير كلها. فزعت الراهبات لشكل الأرض التي بذرتُ فيها بذوري الشيطانية (كما سمينها). فخلعنني بعد أن نمت جذوري هناك. خلعنني من الأرض وأعدنني إلى بيت أم أمي.

الأم العجوز أولتني للجارة صاحبة الوصفة. الجارة كان لديها سرير بناموسية من القطيفة، ثقيلة، لا ترى ما يجري داخلها. سرير واقف ثابت على أرض متعرجة، تحت سقف من الخوص يمكنك أن تقطف من بين فتحاته النجوم التي تطل بفضول على السرير، وتحت المرتبة تحفظ كتاب التعاويذ خاصتها.

وأنا في العاشرة حرقوا حجرتها وهي بداخلها قبل أن تضع جنينها بأشهر. قالوا إنه ابن حرام، ولم تخبرني أم أمي من هو "حرام" أبو الولد. لكنهم قتلوها لما أخبرتهم أن الطفل ابنها وحدها، أنبته في رحمها سيدنا الولي لما تضرعت عند بابه طويلاً وتلت تعويذة الحمل، فحكموا عليها بنهاية الساحرات.

عرفتُ بعدها أنني ملعونة، وأن شوك أصابعي قتل أمي وحرق جارتنا وشلَّ أم أمي حتى ماتت منسية. كنت أظنها نائمة فأغلقت عليها باب الدار ورحت ألعب حتى نمت في الخلاء.. أخبرني العيال في صباح ما وأنا آكل من أرض السوق أن جدتي دوَّدت فدفنوها تحت دارها.

ولما كانت أرض السوق شحيحة، عملت لدى الدهّان لأضمن طعامي.. أخرُج في الليل سرًّا وبأصابعي الشوكية أكحت الجدران، وأحفر رموزًا بلا معنى، فيصحو أصحابها ليفزعوا من الفأل السيئ، فيستدعوا الدهّان يعيد تلوينها. ولما صحوت يومًا على خبر حريق مخزن الدهانات، عرفت أنها لعنة أصابعي، فخفت أن أعود إلى دكانه لقبض نصيبي من تلوين الجدران الفائتة.

عملت لدى حلاق الصحة، أخمش وجوه الأطفال سرًّا ليعالجها بدهان الورد والصبار. وأخفيت حتى عن الحلاق نفسه سر التعويذة التي كنت أقرؤها على كل طفل خمشته. وهكذا خلقت جيلاً كاملاً في القرية كبروا بشوك في بقعة ما بأجسادهم. ومع دجال القرية كنت أنفض شوكي الزائد على أبواب البيوت وبين بيض الدجاجات، فيأتون به ليقرأ تعاويذه ورُقياته في البيوت المقابر.

كنت أؤلف مِهنًا جديدة وأذهب بها لأصحاب العمل. بلغ خبري المدينة، فاستدعاني طبيب للعمل معه. في المدينة عملت مع الأطباء وفي المدارس ومصانع الهدوم. عملت مع المتشاحنين فضمنت طعامي لأشهر قادمة.

في المدينة تعلمت عبور الشارع وحدي، فلا يد يمكنها أن تمسك شوكي وتعبر بي.. أخبرني فتى المدينة عن سلام اليدين وتمليس الشعر ورقصة التانجو، أخبرني عن تقليب الورق ومسكة القلم والتصفيق. أخبرني عن ملامسة بتلات الأزهار وفرك عينَي أول الصباح ومداعبة كفوف الرُّضَّع، وحتى عن استناد خدي على يدي.. أمور لم أختبرها يومًا وأنا بأصابع من شوك.

وعدني الولد بخلع شوكي، فأنا في المدينة الآن حيث كل الأحلام قابلة للتحقق. كان كلما عانقني سقطت من يدي شوكتان، لم أخبره قط بألم سقوط الشوك. اكتفيت برسم الأحلام معه وبما سأفعله وأنا بأصابع ناعمة. ولما سقط كل شوكي غاب الولد لما رأى ثقبًا مكان كل شوكة سقطت.

وقفت تائهة في المدينة التي خبرتها عشرين عامًا، أصابعي مثقوبة لها خوار مهيب، بلا شوك يضمن لي عملاً وطعامًا، وبلا حبيب وأحلام. لم يُجدِ استناد خدي على يدي شيئًا، ولم يغيرني رقص التانجو مع الغرباء.

دهنتُ أصابعي بمنقوع الورد الطازج وزيت الصبار، وكتبت على وجهي تعويذة الجارة الناقصة. في الصباح نبت على لساني شوك ومرار، ونبتت على جبهتي وردة!

بالوردة، صاحبتُ الرجل الرحالة، علَّه يدلني على طريق القرية، عسى أن أجد دليلاً على بقية التعويذة. وفي الطريق أخبرني أنه أرهقه الترحال، لكنه يكرر رحلاته بحثًا عن لحام للسانه المشقوق. خيَّمنا عند البئر التي أخبرني جوارها بسر ترحاله. ولم نعد منذ ذلك اليوم، ولم نبحث عن تعويذة تعالج رؤوس أطفالنا التي تشبه اليقطينة.

للتواصل مع الكاتبة