الطريق
الجمعة 23 مايو 2025 03:15 مـ 26 ذو القعدة 1446 هـ
جريدة الطريق
رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس التحريرمحمد رجب
قمة اليد المصرية الأهلى والزمالك.. أون سبورت تنقل نهائي كأس الكؤوس باستوديو تحليلي من الملعب رئيس مركز القدس للدراسات: إسرائيل تستغل الدعم الدولي وتقتل الفلسطينيين أمام أعين العالم الإعلامى شريف مدكور يكشف أسرار وتفاصيل جديدة عن حياته الليلة في ”الرحلة” الليلة.. عرض ”فندق العالمين” و”إنسان روسوم العالمي” على مسرح قصر ثقافة الأنفوشي الاحتلال يستهدف أهالي حاولوا الوصول إلى 30 شاحنات مساعدات وزير الثقافة يشهد حفل فرقة أوبرا الإسكندرية ويوجّه بتوسيع تنظيم الحفلات لتشمل مختلف محافظات الجمهورية شاهد| نبيلة مكرم تكشف لأول مرة عن أسرار خاصة بشأن أزمة نجلها ”رامي” عميد كلية «هندسة المنصورة الجديدة»: طلابنا صنعوا أول دورن مصرية 100% محمد صلاح في لقاء حصري قريبًا على ”أون سبورت” بعد تتويجه بجائزة أفضل لاعب في إنجلترا بعثة منتخب مصر لـ سيدات السلة 3×3 تغادر إلى أذربيجان لخوض تصفيات كأس العالم الأولى في التاريخ.. أون سبورت أول قناة ناقل ”لايف” لحفل رابطة كتاب كرة القدم الإنجليزية شاهد| عضو الحزب الجمهوري الأمريكي: القبة الذهبية مشروع دفاعي وليس هجوميًا كما تدّعي الصين

الحياة الحلوة والموت فى مدينة مالمو..ياسر أيوب من كتاب بلاد على ورق

قبل السفر إلى السويد للتدريب فى قسم أمراض النساء والتوليد بالمستشفى الجامعى فى مدينة مالمو .. كنت أتخيل أن أنيتا إكبرج نجمة سينمائية إيطالية .. فهى البطلة الجميلة التى كانت أمام مارسيلو ماسترويانى فى أشهر أفلام فريدريكو فيلينى بعنوان لا دولشى فيتا أو الحياة الحلوة .. لكننى فى مالمو عرفت أنها سويدية وليست إيطالية .. ولدت وعاشت فى مدينة مالمو وفازت فيها بمسابقة جمال المدينة قبل الرحيل والاستقرار فى إيطاليا حيث كانت الحب الأكبر فى حياة جيانى أنجيلى مالك شركة فيات .. وكنت مضطرا لاستعادة هذا الفيلم كثيرا فى خيالى فى بداية إقامتى فى مالمو .. فالحياة التى عشتها فى هذه المدينة لم تشبه تلك الحياة الحلوة التى عاشتها أنينا وماسترويانى فى روما بعيون فريدريكو فيلينى .. ولم أستطع معرفة السبب المباشر أو الرئيسى لذلك .. هل هى طبيعة السويديين وحياتهم وعاداتهم وقوانينهم أم طبيعة مدينة مالمو التى تعشق الهدوء وتخاف من الليل .. أم لأننى كنت أقيم فى غرفة ضيقة داخل مستشفى تموت فيه الحياة بعد الساعة الخامسة حيث كنا فى 1984 بدون إنترنت وكمبيوتر وتليفونات محمولة .. لكن لم يدم هذا الاحساس طويلا نتيجة أمرين تغيرت بهما وبعدهما حياتى فى مالمو .. الأول كانت صداقة بدأت بينى والدكتور جريميليوس أستاذ الكلينيكال باثولوجى الذى كان يقضى وقتا طويلا فى المشرحة بعد انصراف كل الأطباء .. رجل تجاوز السبعين من العمر .. سافر كثيرا وقرأ كثيرا فى الدين والأدب والتاريخ والفلسفة .. كانت زوجته أستاذة جامعية أيضا لكن فى جامعة أوبسالا شمال السويد وتفضى هناك معظم الوقت .. وكانت مصريتى بداية المعرفة بيننا نتيجة احترامه لحضارة مصر وتاريخها وعلم التحنيط الذى ابتكره المصريون .. والأمر الثانى كانت نصيحة أستاذتى فى قسم أمراض النساء والتوليد بالمستشفى التى لاحظت فى البداية شعورى بالملل والوحدة فكانت نصيحتها أن أستقل المركب وقتما أشاء وأذهب إلى كوبنهاجن فى رحلة لا تستغرق أكثر من 30 دقيقة .. وهكذا عدت للحياة من جديد فى مدينة مالمو

ورغم أننى كطالب طب لم أكن غريبا على المشرحة إلا أن الأوقات مع الدكتور جريميليوس كانت مختلفة تمام .. فإلى جانب أنه كان يقوم بتشريح جثث الذين ماتوا لأسباب علمية وبحثية وليست جنائية .. إلا أنه كان يقوم بذلك وأنا بجانبه أسمعه يخلط فى حديثه بين المرض والوجع والدواء والطب وثقافة الموت فى مختلف بلدان وديانات العالم .. وكان جميلا هذا التناقض الذى أعيشه كل يوم حيث أبدأ فى الصباح مع الذين يولدون ويبدأون الحياة ثم أنتقل آخر اليوم لأكون وسط الذين ماتوا وانتهت حياتهم .. وغير التشريح كان الدكتور جريميليوس خبيرا بأمراض النساء واعتاد أن يشرح لى ويعلمنى كيف أتعامل كطبيب فى المستقبل مع النساء وأجسادهن وأوجاعهن .. ويحكى الكثير من الحكايات والذكريات .. وإلى جانب تناقضات الميلاد والموت كل يوم .. بدأت صداقات كثيرة سواء مع أطباء وطالبات وطلبة سويديين ومع زملاء مثلى جاءوا من مختلف البلدان للتدريب فى مستشفى مالمو التابعة وقتها لجامعة لوند .. وبدأت مع ومن السويديين أعرف الكثير عن السويد وأهلها .. فلم أكن أعرف قبل السفر إلى مالمو إلا فريق الآبا وأغانيه الجميلة .. وسيارات الفولفو التى اشتهرت بالمتانة والقوة .. وجبل الجليد أو بطل التنس العالمى الشهير بيورن بورج .. وأعلى نسبة انتحار وقتها فى العالم كله .. فعرفت الفيكا .. أو عادة تناول القهوة مع المخبوزات وسط أصدقاء وزملاء وتبادل الحديث عن هموم العمل أو الحياة .. وعرفت أيضا تميز السويديين بالتواضع الشديد سواء إمرأة أو رجل .. أستاذ كبير ومدير أو ممرضة وعامل بسيط .. لا أحد يتعامل بتعالى أو غطرسة .. ولا يميلون للثرثرة طول الوقت .. والسويدى بشكل عام جاد جدا ولا يميل كثيرا للضحك .. ينتهى يومه فى العاشرة مساء ويستيقظ مبكرا جدا ويحترم العمل والبيت والأسرة .. أمين وصادق وواقعى ومنظم جدا .. لا يكسر أى إشارة مرور وحريص على وضع حزام الأمان ويضىء مصابيح سيارته سواء فى الليل أو النهار .. وهو حريص جدا لدرجة أنه قد يطوف باكثر من عشرة محال قبل أن يقرر شراء قطعة جبن .. ولا يتزوج إلا بعد أن يعيش مع من يحبها سنتين على الأقل وقد ينجب الإثنان طفلا أو أكثر قبل قرار الزواج .. حريص أيضا على أن يعرف أخر أخبار العلم لكنه ليس مهتما على الإطلاق بمعرفة أسماء جيرانه .. معظمهم يتحدثون الإنجليزية ويكتفون بالمصافحة فقط عند اللقاء أو الوداع ويخلعون أحذيتهم قبل دخول بيوتهم .. ويتشابه السويديون فى أذواقهم ولهذا تتشابه فى العادة ثيابهم وأثاث بيوتهم وحتى أسماءهم أيضا .. ويحبون قضاء إجازاتهم فى الغابات والحدائق وركوب الدراجات .. لا يملون من أكل السمك والرنجة والبطاطس المسلوقة ويحرصون على المساواة بين الجميع ويتقاسمون الحقوق والواجبات دون أى تمييز
أما مع زملائى الذين مثلى غرباء وجاءوا إلى مالمو فقط من أجل الدراسة والتدريب .. فقد بدأنا بعد أيام كثيرة نخرج ونرى مدينة مالمو .. ثالث أكبر مدن السويد التى تنقسم إلى جاملا فاستير فى الغرب حيث المبانى
القديمة والتاريخية والأحياء الحديثة فى الشرق .. وأكبر ميادينها هو ستورتورجيت الجميل الذى لا يقل جمالا عن شواطئها سواء شاطىء ريبسبورج الذى يحوى جزءا مخصصا للعراة .. أو شاطىء الميناء الغربى وفيه الممشى الخشبى الطويل فوق البحر .. وحتى سنة 1658 .. كانت مالمو ثانى أكبر مدينة دنماركية لكنها فى تلك السنة أصبحت سويدية بعد حرب خسرتها الدنمارك واستولى الجيش السويدى على مالمو وضمها إلى المملكة السويدية .. وحين نصحتنى أستاذة أمراض النساء بالسفر إلى كوبنهاجن .. اكتشفت المراكب أو العبارات الكثيرة التى تتنقل طول الوقت بين مالمو وكوبنهاجن .. وكان ذلك بالنسبة لى اكتشافا مثيرا للغاية .. فخلال 30 دقيقة فقط تنتقل من مالمو الصامتة الهادئة إلى قلب كوبنهاجن الساخرة والصاخبة .. وكان كثيرون من أهل مالمو يقومون بهذه الرحلة فى نهاية كل أسبوع .. وأصبحت مثلهم كلما شعرت بالملل أو أنزعج من الحياة الهادئة المنظمة فى مالموا أذهب بالأوتوبيس للميناء ثم عبر البحر إلى كوبنهاجن وأعود فى الليل إلى مالمو مرة أخرى .. وكان يرافقنى أحيانا فى هذه الرحلات إلى كوبنهاجن سواء صديقى السويدى بيترو أو زميلتى البولندية موجوشاتا .. وهى رحلات لم تعد موجودة الآن بعد بناء جسر فى 2000 يربط بين المدينتين بطول 16 كيلومترا .. ولم أعبر هذا الجسر ولا أزال محتفظا بذكريات جميلة لرحلة البحر وصوت المواتير حين يختلط بصوت الموج أثناء السفر من وإلى مالمو .. ولا أزال أيضا أحتفظ فى ذاكرتى بمالمو الهادئة الآمنة قبل أن تتحول فى السنوات الأخيرة إلى ميناء يستقبل معظم المهاجرين والغرباء القادمين للسويد سواء بطرق شرعية ولجوء سياسى أو هربا من أى قيود وحدود لبدء حياة جديدة فى أرض غريبة
وفى آخر أيامى فى مالمو .. جلست طويلا مع الدكتور جريميليوس الذى سبق أن تعلمت منه أشياء ودروسا كثيرة جدا .. وبقيت مدينا له قبل اعتزال الطب كلما نجحت فيما بعد فى مداوة إمرأة مهما كان وجعها لأنه هو الذى علمنى كيف أتعامل مع جسد وروح وجروح كل إمرأة وكأنها حالة شديدة الخصوصية .. وكنت أتمنى أن ألتقيه لأعتذر له بعد اعتزال الطب .. لكننى لا أزال مدينا له بدروس الحياة وليست فقط دروس الطب .. فقد تعلمت منه أننى لم ولن أكون الأفضل فى أى شىء .. ولكن ليس هناك ما يمنع من المحاولة الدائمة حتى وإن كانت مستحيلة .. كان يقول لى دائما أننى مهما قرأت وعرفت .. سيبقى هناك بالتأكيد من قرأ اكثر وعرف أكثر .. وأننى مهما نجحت أو استطعت أو امتلكت .. سيبقى هناك من هو أكثر نجاحا وقدرة وثروة .. وحين قلت له أن هناك آية فى القرآن يخاطب فيها الله الإنسان قائلا .. إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا .. كان سعيدا بها جدا واتفقنا نحن الاثنان يومها على الاحتفاظ بهذه الآية معنا طول الوقت .. ومن يومها وأنا أحتفظ بهذه الآية خلف ظهرى وأمام عينى واثقا ومقتنعا بأننى أبدا لن أخرق الأرض ولن أبلغ الجبال طولا ولن أكون فى أى يوم الأفضل أو الأقوى أو الأذكى أو الأغنى .. مجرد إنسان يحلم ويحاول تحقيق ما يحلم به حتى إن لم ينجح فى ذلك .. وكان الدرس الثانى هو القدرة الدائمة على الاستغناء .. استغناء عن أى أحد وأى شىء .. كان الدكتور جريميليوس يقول لى أن الحياة ستستمر وسيبقى الناس يأتون ويرحلون .. وضحك وهو يقول لى تستمر سواء جاء أشخاص أو رحلوا .. والمؤكد أننى الذى سأبقى مع نفسى حتى لو رحل الجميع .. كان يقول لى ضاحكا .. حب كما تشاء لكن دون ضعف أو تصور أنك ستموت لو مات هذا الحب .. ومن أجل ذلك أحببت دائما أغانى الحب المسكونة بالكبرياء لا العجز وقلة الحيلة .. ولا أحترم مطلقا من يقبل الإهانة بإسم الحب .. ولا أقدم تنازلات لأحد إلا إن كان نفس الوقت يقدم لى نفس هذه التنازلات .. وبقيت من يومها وحتى الآن أتأمل هؤلاء الذين يتصورون أنفسهم مهمين جدا لكى تستمر الحياة وتبقى الأرض تدور .. لا أسخر منهم ولكن أستمتع بالفرجة عليهم وهم لا يكادون يطيقون أنفسهم من فرط احساس كل منهم بذاته وأهميته وضرورته .. أما الدرس الثالث فكان القدرة الرائعة على الاستمتاع دائما بما أملكه بالفعل حتى وإن كان قليلا جدا .. وألا أقارن بينه وبين ما فى يد الآخرين وما يملكونه .. فليس لى شأن بهم .. الكتاب الذى معى هو أجمل ما فى الدنيا وقتها .. فنجان القهوة أمامى هو أشهى شىء فى الدنيا .. قليل المال فى جيبى يجعلنى الأغنى .. سيارتى القديمة المهشمة هى أفخم سيارة فى العالم .. كل أشيائى أحبها وترضينى وتسعدنى .. وتغنينى أيضا

موضوعات متعلقة