شحاته زكريا يكتب: حين تتكلم الصين باليوان.. كيف ترد القاهرة بالجنيه؟

في عالم يضج بالتغيرات الجذرية، وتحت وقع أزمات النقد وشُح الدولار، لا يبدو غريبا أن يلوّح العالم بعملات بديلة، لكن المختلف أن مصر لم تعد تكتفي بالمراقبة بل انخرطت بجرأة في «اللعبة الجديدة» لعبة الاقتصاد المتعدد الأقطاب.
فحين تتحدث الصين بلغتها النقدية وتُغري الشركاء بـ«اليوان»، كانت القاهرة تُجهّز على مهل لكن بثبات للرد بالجنيه القرار الأخير الذي فعّله البنك المركزي المصري بالسماح باستخدام اليوان في التعاملات البنكية لم يكن ردة فعل على أزمة بل تعبير عن توجه استراتيجي طويل الأجل بدأ منذ سنوات بإعادة رسم خريطة التجارة والتعاون مع الشرق.
مصر تعلمت من دروس التقلبات من التعويم إلى التعافي ومن فخ الاعتماد الكامل على الدولار إلى فكرة تنويع السلة واليوم لم تعد الصين مجرّد شريك تجاري أو مستثمر عملاق، بل باتت بوابة مصر إلى نظام اقتصادي جديد، يتحدث بعملات محلية، ويتجاوز الهيمنة الأمريكية التاريخية.
الخطوة تفتح الباب لأمرين في غاية الأهمية: أولا خفض الضغط على العملة الصعبة، وتقليل كلفة الاستيراد من الصين– وهي المورّد الأكبر لمصر بحجم واردات تجاوز 17 مليار دولار. ثانيا تمهيد الطريق لإدماج الجنيه المصري في معادلة جديدة للتعاملات الإقليمية والدولية، سواء ضمن تحالف «البريكس» الذي انضمت إليه مصر رسميا مطلع 2024، أو في اتفاقات ثنائية أوسع مع دول آسيوية وأفريقية.
لكن الرهان الأكبر ليس في الأرقام فقط بل في الرؤية. مصر لا تحاول أن تنجو من أزمة ، بل تريد أن تُؤسّس لنموذج جديد أن تتعامل بلغة العصر دون أن تفقد هويتها أن تُراهن على علاقات تكافؤ لا تبعية وعلى شراكات تبني لا تقترض فقط.
ولأن الصين ليست فقط اقتصادا ضخما بل مشروعا حضاريا، فإن التفاعل المصري معها لا يجب أن يظل اقتصاديا فحسب بل ينبغي أن يمتد إلى التكنولوجيا، والتعليم، والبنية التحتية، وحتى الثقافة. فاليوان ليس مجرد عملة، بل هو حامل لثقافة استقلالية اقتصادية، ترد على الدولار بجملة مفادها: «هناك بديل».
اليوم حين تتكلم الصين باليوان ترد القاهرة بالجنيه لا كتحد بل كخيار استراتيجي مدروس. خيار يحترم الذات ، ويُدير المصالح ، ويعزز قدرة البلاد على الصمود في وجه العواصف بل وعلى استثمار العاصفة نفسها لصالحها.
لقد ولّى زمن التبعية النقدية المطلقة. ومصر – التي تتعامل الآن فعليًا مع أكثر من 3 آلاف شركة صينية – تبرهن أنها قادرة على تحريك السوق بلغة متعددة.فيها الدولار واليوان والجنيه والروبل والدرهم.. ولكن الأهم: فيها إرادة سياسية واقتصادية تقول بوضوح «لن نبقى أسرى عملة واحدة».
إنه زمن الاقتصاد الذكي، لا الجري وراء النقد الصعب فقط. وزمن التكتلات القوية التي تبني اقتصادها بلغتها. ومصر بما تمتلك من موانئ، وشبكة لوجستية، وبنية تحتية، ورؤية إصلاح، ومرونة استراتيجية، تبدو اليوم في موقع يسمح لها أن تكون لاعبا لا تابعا.. شريكا لا مجرد عميل.
وحين يكتمل هذا التوجه بتعزيز إنتاج محلي وتوسع في التصنيع، وزيادة الصادرات، وتحسين مناخ الاستثمار، فإن الجنيه– الذي طالما كان عنوانا للضعف – قد يتحول إلى ورقة قوة في عالم تُعاد صياغة خرائطه من جديد.
فلا يُستهان أبدا ببلد قرر أن يتكلم لغته النقدية الخاصة في زمن الصراخ بالدولار.
مصر تتكلم بالجنيه والعالم بدأ يسمع.