شحاته زكريا يكتب: بين التطبيع والمقاومة.. كيف تُعيد مصر رسم حدود اللعبة؟

في زمن تتغير فيه ملامح الشرق الأوسط كل صباح ، ويُعاد فيه تعريف الأصدقاء والخصوم، وبينما تتسابق دول نحو التطبيع العلني مع إسرائيل، وأخرى تغرق في خطاب المقاومة دون حساب للكلفة، تبقى مصر وحدها، الدولة التي تعرف متى تصمت ومتى تتكلم، متى تُهادن ومتى تُهدد، ومتى تضع الخط الأحمر الواضح بين الانفعال والحكمة. السؤال الآن ليس: من يطبّع ومن يقاوم؟ بل: من يملك القدرة على إعادة رسم "حدود اللعبة"؟ ومصر هنا ليست لاعبا عاديا بل مهندسا استراتيجيا لحركة التوازنات.
منذ توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل عام 1979 كانت القاهرة تُدرك أن السلام ليس عناقًا دافئا، بل قرار استراتيجي يخدم المصالح العليا ويمنع انزلاق المنطقة إلى حرب استنزاف دائمة لكنها في الوقت نفسه لم تخلع عباءة العروبة، ولم تفرّط يوما في دعم القضية الفلسطينية حتى حين تخاذل الآخرون. هذه الثنائية المصرية — التطبيع العقلاني والدعم الصادق للمقاومة الشرعية — هي ما ميّز القاهرة عن كل العواصم وهي ما يجعل صوتها مسموعا في تل أبيب كما في رام الله وغزة.
اليوم ومع موجة التطبيع الجديدة التي انطلقت من أبوظبي إلى الرباط ، مرورا بالمنامة، ومع تصاعد المحور الإيراني الذي يستخدم "المقاومة" شعارا لتوسيع النفوذ تبدو مصر كأنها "العقل العربي" الوحيد الذي لا يزال يتصرف وفقا لمعادلة السيادة لا الانفعال، والمصالح لا المزايدة.
فهي لا ترفض التطبيع كفكرة بل ترفضه حين يُستخدم كوسيلة للتفريط أو كجسر لشرعنة الاحتلال. ولا تعارض المقاومة كحق لكنها تُدرك خطورة أن تتحول إلى أداة في يد أجندات إقليمية لا يعنيها تحرير فلسطين بقدر ما يعنيها اختراق العالم العربي من بوابة "التحشيد العاطفي" وهنا تكمن الفارق الجوهري بين من يقف مع الشعوب ومن يتاجر بها.
عندما اندلع العدوان الإسرائيلي على غزة لم تُطلق مصر شعارات فارغة بل أطلقت مبادرات عملية. أرسلت المساعدات فتحت المعابر استقبلت الجرحى قادت التهدئة ودفعت سياسيا وأمنيا واقتصاديا للحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار. كانت مصر هي من تحركت بينما كثيرون اكتفوا بـالبيانات الحادة، أو وظفوا دماء الأبرياء لتسجيل نقاط سياسية على خصومهم الإقليميين.
المعادلة التي تُديرها القاهرة اليوم ليست سهلة: كيف تضمن أمنها القومي وتحفظ دورها كوسيط رئيسي وتُبقي على حضورها العربي والإفريقي ، وتمنع في الوقت نفسه تسلل الأطراف غير العربية إلى القضية الفلسطينية؟ كيف توازن بين الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل ، وممارسة الضغط عليها حين تتجاوز الخطوط الحمراء في العدوان أو الاستيطان أو التهجير القسري؟ كيف تُبقي على علاقات جيدة مع الغرب ، دون أن تكون تابعا له في ملفات القدس أو غزة أو حتى السودان؟
الإجابة تكمن في فلسفة "الاعتدال الصلب" التي تتبناها القاهرة. اعتدال لا يعني الحياد أو التراخي ، بل يعني إدارة الصراع بعقل لا بعاطفة وبميزان لا يهتز أمام ضغوط اللحظة. فمصر لا تكتفي بإدانة الجرائم الإسرائيلية ، بل تُوظف علاقاتها لوقفها. ولا تصفق لكل صاروخ يُطلق من غزة بل تسأل: من يربح ومن يخسر؟ ما الأفق؟ وما الثمن؟ لأنها لا ترى فلسطين ميدانا للشعارات بل قضية شعب يستحق أن يعيش على أرضه بكرامة، لا تحت القصف ولا تحت سلطة الوكلاء.
وفوق كل هذا فإن القاهرة تُدرك أن الصراع في المنطقة اليوم لم يعد فقط عربيا - إسرائيليا ، بل أصبح أيضا صراع سرديات: من يروي الحكاية؟ من يملك الصورة؟ من يُحدد العدو ومن يُعيد تعريف "المصلحة"؟ ولهذا تتحرك مصر في كل اتجاه: إعلاميا، أمنيا، سياسيا، بل وإنسانيا، لتقول إن الحق لا يُختزل في صاروخ ، ولا يُلخص في اتفاق، بل يُصان بالقدرة على إدارة اللحظة وتوجيه المسار.
في هذا السياق.تبرز مصر كمَن يعيد رسم حدود اللعبة: تُمسك العصا من المنتصف، لكن عينها لا تُغمض عن الجرح الفلسطيني تُرحّب بالتطبيع إذا خدم القضية وتُعارضه إذا استُخدم لتكريس الاحتلال تُناصر المقاومة حين تكون مشروع دولة، وتُحذر منها إذا تحولت إلى ذراع لمشروع فارسي في جسد عربي.
إنها مصر التي تدرك أن السلام لا يكون ببيع القضايا، وأن المقاومة لا تُدار من غرف العمليات البعيدة هي التي تعرف أن الطريق إلى فلسطين يمر من العقول لا من المزايدات ومن البناء لا الهدم. وبين من يُطبّع ليُرضي ، ومن يُقاوم ليُهيمن، تبقى القاهرة ترسم خطا ثالثًا: خط السيادة، والعقل، والكرامة.