ياسر أيوب يكتب: المافيا والنار وقلب الأسد فى باليرمو الجميلة

"من كتاب بلاد على ورق"، باليرمو التى ذهبت إليها 1990 ليست هى باليرمو الآن أو فى أى وقت بعد 1992 حين قامت الحكومة الإيطالية بحربها الكبرى ضد المافيا وعصاباتها وجرائمها .. فقد سافرت إلى باليرمو وهى لا تزال خائفة لكنها ظلت رغم الخوف قادرة على أن ترقص وتغنى وتحلم بما هو أفضل وأجمل .. فلم تكن جرائم المافيا هى أول أو اخطر أو أقسى أزمة تعيشها المدينة الأكبر فى جزيرة صقلية .. المدينة التى بناها الفينيقيون قبل الميلاد وفشل الإغريق فى احتلالها لكنها استسلمت للرومان واحتلها البيزنطيون سنة 535 .. وأصبحت فى 831 مدينة عربية قبل أن يعيدها الرومان 1194 مدينة أوروبية من جديد لتنضم إلى مملكة إيطاليا 1860 .. وكان قصفها بالقنابل وتدميرها 1943 بداية استسلام إيطاليا فى الحرب العالمية الثانية .. وظلت باليرمو طول الوقت تحتفظ بذكريات وحكايات وبقايا من كل الذين جاءوا ورحلوا .. وأحدهم كان ريتشارد قلب الأسد .. الملك الإنجليزى الذى لم يكن فى الحقيقية بالصورة التى أظهره بها يوسف شاهين فى فيلم الناصر صلاح الدين .. وقبل أن يصل ريتشارد الحقيقي إلى فلسطين لتحرير القدس من العرب وصلاح الدين .. توجه إلى صقلية .. وكعادته مارس العنف والبطش مع أهلها قبل أن يفاجأ بقيام تانكريد ملك صقلية الجديد بسجن الملكة جوانا أرملة الملك الراحل هنرى الثانى وشقيقة ريتشارد قلب الأسد .. فعاشت صقلية بمختلف مدنها مع ريتشارد أحد فصول تاريخها المصبوغ دائما بالدم .. وأكد الباحث التاريخى لويجى مندولا أن حكاية ريتشارد قلب الأسد فى صقلية .. من ميسينا إلى كالابريا إلى باليرمو .. ستبقى حكاية يصعب تجاهلها او نسيانها لمن يريد أن يكتب عن صقلية أو عن ريتشارد قلب الأسد
وكنت قد ذهبت إلى صقلية مدعوا من نادى البحر المتوسط للحروق الذى تأسس 1988 فى قسم جراحة التجميل وعلاج الحروق فى مستشفى سيفيك بجامعة باليرمو .. وكان مطلوبا منى تقديم وإلقاء بحث عن العلاقة بين الإعلام وجراحات التجميل وعلاجات الحروق .. وكانت إحدى مصادفات القدر الجميلة أن أعتزل الطب وأتجه للصحافة وتصبح أول رحلة صحفية فى حياتى أن أسافر إلى باليرمو للحديث عن العلاقة بين الصحافة والطب .. ومثلما كانت روما هى أول مدينة أسافر إليها طالبا فى كلية الطب .. أصبحت باليرمو هى أول مدينة أسافر إليها صحفيا بعد ان اعتزلت الطب .. وقضيت أيام طويلة قبل السفر أحاول قراءة كل ما هو متاح عن طب التجميل والحروق وضحاياها وعلاجاتها وأيضا عن باليرمو وتاريخها ومعالمها وأهلها .. وكانت مهمة شاقة قبل أن يتيح الإنترنت لاى أحد الحصول على ما يريده ويحتاج إليه من معلومات وحكايات فى أى مجال بسرعة وسهولة .. وأصبحت بالبحث عن تاريخ ضحايا الحروق وتاريخ حروب باليرمو كأننى امشى وسط نيران الأرض والحجر ونيران وعذابات البشر .. فمثلما غيرت النار العالم كله وحياة الناس لتصبح أسهل وأجمل .. كان للنار ضحايا من بيوت وشجر وكتب .. وبشر كثيرين إما تم إحراقهم تنكيلا وانتقاما أو التقت النار بوجوههم وأجسادهم فى لحظة سيبقى ضحايا النار طويلا يدفعون ثمنها وجعا جسديا وعذابا نفسيا .. ومثلما يعيش طالب الطب معاناة ليالى الامتحان الشفوى فى الجراحة والباطنة وأمراض النساء .. عشت ليلة تقديم البحث الخاص بى عاجزا عن النوم وقضيت الليل كله أقوم بالمراجعة والحذف والإضافة والتدريب وإعادة الترتيب .. لم يكن يشغلنى ما سيضمنه البحث الذى كتبته بعد طول بحث وتعب إنما أننى سأقف وأتحدث أمام أطباء أساتذة من أيطاليا وأوروبا ومصر وبلدان عربية مع ان المفروض أن اجلس طويلا أمام كل أستاذ منهم أطيل الاصغاء حريصا على أن اتعلم منه الكثير
وبعد انتهاء هذه المعاناة وتقديم البحث وإلقائه أمام الجميع .. أصبحت حرا فى رؤية باليرمو وكانت البداية الجميلة هى شوارع باليرمو .. شوارع لا تخاف من المافيا والموت .. أخذت من التاريخ الطويل بيوتها وأسوارها وقلاعها ومن الناس براءتهم وابتساماتهم وأغانيهم وإصرارهم على الحياة .. وأزعم أننى قبل وبعد ذلك مشيت فى شوارع كثير من مدن إيطاليا لكن تبقى شوارع باليرمو هى الأجمل والأصدق والأكثر ثراء ودفئا وحيوية وحياة .. قد تكون روما تملك تاريخا أكبر .. وتملك ميلانو مبان أرقى .. وتملك فينسيا رومانسية أجمل .. وتملك نابولى صخبا أعلى .. لكن تملك باليرمو ذلك كله فى نفس الوقت ونفس الشارع .. التاريخ والجمال والزحام والرومانسية والصخب .. وأكشاك تبيع طعام صقلية وفاكهتها وقلبها أيضا .. ومن ساحة بريتوريا إلى سوق إل كابو أو سوق بالارو وسوق فوتشيريا .. لا أحد يستطيع الهرب من رائحة البرتقال وتوابل صقلية .. أو مقاومة الباستا لا نورما أو المكرونة والباذنجان .. والأرانشينى أو كرات الأرز المقلية بالخبز .. ثم العنب فى صقلية الذى هو الأجمل فى العالم كله .. وقهوة الإسبريسو المعجونة بمفردات اللغة الإيطالية الجميلة .. وحين يصعد أى أحد فوق سطح كاتدرائية باليرمو .. يستطيع أن يرى باليرمو كلها .. ومهما بدت جميلة من أعلى فإنها تبقى أجمل وسط زحام الناس المخلوط بالتاريخ الرومانى والعربى .. وسواء بقى الإنسان يراها من أعلى السقف أو واقفا على الأرض .. فلابد ان يتساءل لماذا لم تنل باليرمو من النجاح والرواج والشهرة العالمية مثل بقية مدن إيطاليا .. وغالبا ستكون الإجابة الأولى هى المافيا .. وهى إجابة صحيحة ومنطقية لكنها لا تصلح وحدها تفسيرا .. فهناك أيضا نظرة الإيطاليين إلى باليرمو وصقلية كلها .. فأهل روما ومدن شمال روما يعتبرون باليرمو وشقيقاتها عالة وحملا ثقيلا فوق ظهورهم .. يتهمون أهل باليرمو وصقلية بالكسل والعجز والفقر .. وبات من الضرورى الرحيل إلى الشمال أى شاب أو فتاة فى باليرمو يريدان النجاح وتحقيق ما يحلم به أى منهما وأى أحد آخر فى باليرمو يبحث عن فرصة وأمل وحياة فى الشمال بعيدا عن باليرمو .. ويسافر هؤلاء كل يوم إلى الشمال ويحققون هناك أحلامهم وينجحون لتزداد روما وأخواتها شهرة وجمالا وثراء بينما تبقى باليرمو تشعر بالظلم والاضطهاد حائرة بين رؤية أهل الشمال وجرائم المافيا فى قلبها
وذهبت إلى باليرمو قبل أن تنجح الحكومة الإيطالية فى حربها ضد المافيا .. وكان هناك وقتها يشيرون إلى مثلث الموت .. فعلى حدود باليرمو وعند اطرافها تقع باجيريا وكاستلداشيا وألتافيلا .. وكانت باجيريا قد تأسست أيضا كمصيف يبعد 15 دقيقة فقط بالسيارة عن باليرمو لأغنياء المدينة للاستمتاع بجمال شواطئها وبحرها .. ولم تسمح عصابات المافيا باستمرار ذلك .. سواء بابتزاز هؤلاء الأغنياء أو حرق بيوتهم وسياراتهم ثم قتلهم أيضا أن توقف دفع المال الكثير للمافيا .. وكان الفارق كبيرا بين أن تقرأ عن المافيا فى كتاب أو رواية وان تعيش وتسمع عن جرائم المافيا وأنت فى أرض المافيا .. فقد كان زعماء المافيا يجلسون وسط قصورهم الفاخرة فى باليرمو يتاجرون فى المخدرات ويخططون لقتل كل من يعارضهم أو يلجا ضدهم للشرطة .. ولم يكتفوا بذلك إنما استمرت طويلا ونجحت محاولات تشويههم لجمال باليرمو الطبيعى والتاريخى حيث كانوا ييبنون البيوت القبيحة بدلا من قلاع وقصور التاريخ .. ولم يكن هناك من يستطيع معارضتهم او إيقاف كل هذا التخريب والتشويه
وبالتأكيد .. لا ينسى مصريون كثيرون تلك العبارة الشهيرة التى قالها محمود بكر بتلقائية وانفعال وسعادة حين تم احتساب ضربة جزاء لمصر أحرزت بها هدف التعادل فى مرمى هولندا فى 12 يونيو 1990 فى مونديال 1990 الذى استضافته إيطاليا .. وقتها قال محمود بكر .. عدالة السماء هبطت على استاد باليرمو .. ولم تكن العدالة فى استاد باليرمو هى العلاقة الوحيدة بين مصر وباليرمو .. فهناك أيضا حجر باليرمو .. وبدأت حكاية هذا الحجر بلوحة تم نحتها على حجر من البازلت الأسود فى عصر الأسرة الخامسة فى مصر القديمة .. وتضمنت هذه اللوحة قائمة ملوك مصر وإنجازاتهم وانتصاراتهم من الملك نارمر وبقية ملوك الأسرة الأولى حتى نهاية الأسرة الرابعة مع ذكر للأحداث المهمة فى كل سنة .. وأيضا أسماء ملوك مصر فى عصر ما قبل التوحيد والأسرات .. وتحولت هذه اللوحة إلى سبع أجزاء منها أجزاء فى متاحف القاهرة ولندن وحمل الجزء الأكبر منها اسم حجر باليرمو .. فقد اشتراه محام من صقلية اسمه فرديناند جويدانو وظلت تملكه عائلة المحامى حتى قررت فى 1877 اهداءه إلى متحف أنطونيو ساليناس فى باليرمو حيث حمل الحجر وقتها ولا يزال يحمل اسم حجر باليرمو .. وليس معروفا أين تم العثور على اللوحة الجدارية أو حجر باليرمو .. ورغم صغر حجم حجر باليرمو إلا أنه يبقى أقدم وثيقة تاريخية لمصر القديمة وهو أساس أى بحث أو دراسة علمية وتاريخية عن مصر بعد توحيدها وبداية أسرتها الأولى .. وهو ما يعنى أن المصريين عثروا فى باليرمو على العدالة الكروية .. وأيضا على أقدم وثيقة تحكى تاريخهم وكيف بدأت حضارتهم


