الطريق
الخميس 28 مارس 2024 10:41 صـ 18 رمضان 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

قصة قصيرة| الرُؤَى

الكاتب إسلام عادل
الكاتب إسلام عادل

(سيرة الأوهام المحرقة والهزائم المتلاحقة)

آه، أحلم بحلم بعيد، ويا للغرابة! رجل فاته قطار الزواج، كانت أمه تدعو له بخلفة البنات، يتمنى من الدنيا ونس طفلتين على قدر من الحنان والدلال. آه، آه، رضوى الحنون الكبرى، وليلى الصغرى المدللة، يستيقظ صباحًا ليأخذ قهوة الصباح، ويقرأ بيتين من شعر نيرودا من مكتبته العتيقة، ليكسر حاجز القراءة والملل، ويستكمل قراءة جريدته، مداعبًا ليلى:

- عارفة أنا سميتك ليلى ليه؟

- ليه؟

- زمان، كنت أنادي أي بنت ما أعرفهاش ”ليلى“.. طالما بنت جميلة يبقى اسمها ليلى بدون أي شك.

- مش كبرت على البكش ده بقى؟

فيستكمل مداعبًا:

- أحبكِ حبًا لو تحبين مثلَهُ

أصابكِ من وجدٍ عليَّ جنونُ

ألا فارحمي صبًّا كئيبًا معذّبًا

حريق الحشا مضنى الفؤاد حزينُ

يستيقظ وحيدًا في غرفة لا يزورها لا الأشباح ولا الملائكة، مغلقة، كُتِبَ على بابها ”أكله الحزن أكلًا حتى إنه زار روحه ولم تعرفه، ذهب به اليأس كل مذهب، فعاد يومًا من بعض مذاهبه محمومًا لا يكاد يتماسك ضعفًا واضطرابًا، فلزم غرفته يعالج داء قلبه".

أين زوجته؟ رضوى؟ ليلى؟ مستقبله؟ أصدقاؤه؟ عمله؟ لا شيء.

رجل ضائع، في الأربعين من عمره، لم تنبت لحيته بعد، تستدل على سنه من حديثه، منعزل يحكى لك عن أحلام، ليس بها من الواقع شيء. آه، إنه الجنون، وأوهام الوحدة والقولون العصبي والضغط المرتفع وسرعة الغضب. آثار الموت على قيد الحياة، لا الشيخوخة. قهر الرجال؟ لربما. رجع العالم إلى الوراء بضعة سنتيمترات ونسيه؟ من المؤكد.

- فين أراضيك؟

- أينما ووقتما حلَّت رائحة فن.

- أنت أضعت نفسك وحياتك كلها في أوهام..

- اسمها متونّس بالفن!

تنهد قليلًا، ثم بكى بغير دموع.

- ماذا أضاع الكهل؟

- التمرد.

غريب هذا الجمود الذي يحط عليه كلما رأى وتذكر أن نبأ وفاته يقترب، ومع أنه قال لنفسه ولغيره متفلسفًا، إن هذه حال الدنيا، وقانون الوجود. إننا نولد لنعيش ثم نموت، وإن آلافًا من الأحباب والأصحاب والرفاق قد طواهم التراب، ومنجل الموت قد حصد كثيرين قبله، وأحزان العمر لم تُبق في المآقي دمعًا يسيل، أما الفواجع فأثخنت القلب، فتكسرت الأحزان، ولم يعد ثمَّ من الدموع بواقٍ، إلا أن ذلك كله بدا له مجرد كلام يقوله لنفسه كي يهرب، كعادته، من مواجهة الحقيقة. ولو لم يكن ما قاله أي كلام، ما تحرَّك كالقط الحبيس الذي يبحث عن أمه كل صباح!

انتظار القدر المؤجل، أقسى عقوبة من الإله، يعاقب بها البشر ويعلمهم دروسًا شتَّى في الفراق والوحشة، ويرجعهم بها إلى الأصول الأولى، التي يكون فيها الإنسان معلقًا بين الأرض والسماء. يختفي فيها تأثير الجسد في البشر، ويبقى نفوذ الروح.

يبتعد الإنسان عن المادة، ويغرق في الشفافية. ينسى الألم والدسائس والمال والسلطة والولد، ولا يتذكر إلا الحق والصدق والخير والتسامح. نولد ونموت وكأنها رحلة تتطلب منك أن تعمل حسابك لهذه الأيام التي سترجع فيها إلى الأصول الأولى.. تنام على الفراش، تقرأ على الفراش، جسدك نحيف، شهيتك ضائعة، بصرك ضعيف، حركتك نادرة، النوم يخاصمك، الأرق يرافقك، الذكريات تلاحقك، وأن تكون وحيدًا إلا من صمت الليل، وعمق الوحشة، والقمر المحاق.

‏آه، آه، أواه.. إنه المرض اللعين. ويا للغرابة! لم يطلب دعوات أحد، فعلاقته بالإله على قدر كافٍ بذلك.. لم يؤذِ أحدًا غير نفسه، فكان العقاب بنفس المقدار. يُطل من شرفته، للسماء مباشرةً:

- تتذكر آخر مرة رفعتَ يدي لك فيها، وكنت غاضبًا، وخذلتني؟ ما زلتُ لا أشك في عدالتك وكل آمالي تنحصر في... لا أعرف في ماذا، فأنت العليم. ‏قل لي ما الاسم الذي إذا دعوتك به، استجبت وأرحتني؟ ولماذا أنت غاضب مني إلى هذا الحد؟ لم أفعل شيئًا في الدنيا يعد ذنبًا غير تمردي، مع يقيني أن عدالتك تتنافى مع حسبان التمرد ذنبًا، وليكن، تمردي على كل سائد ومتفشٍ وغير عقلاني.. وأنت الذي خلقت العقل والتمرد والخير والشر والشك والإيمان.. وكلما لجأتُ إليك وجدت أنني ضعيف حد الشك والعبثية.. ‏أين ذنبي إذًا؟ متمرد؟ أنت الجبار الأكبر الذي علمتني عدم الصمت والتمرد وتكسير كل المعتقدات والحواجز غير العقلانية. كل ما أريد، رئة تتحمل آثام غبار تدخيني لآخر الممر حتى أعبر منه إليك لأخبرك أنني كنت في أشد الحاجة للحظة ونس وصديق يبدد وحدتي ويشد من أزري.. وحدتي الذي خلقتها...

يا رب في مرة علمني غضب أيوب

وفرق الشك م الحيرة

أفك الشفرة لا تحتاج سوى اسمك

وعلمني كما في الصمت لا أسأل ..

اطيق كسرك

جايلك على أبوابك مكسر

يا رب لصّمني

للتواصل مع الكاتب