الطريق
الأحد 28 أبريل 2024 11:26 مـ 19 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

الصيام والحرب

دكتور سمير فرج
دكتور سمير فرج

في كل تجربة من تجارب الحروب الأربع التي شاركت بها دفاعا عن أرض وطننا الغالي، كان لشهر رمضان الكريم ذكريات مختلفة في كل واحدة من تلك الحروب الأربع، وجميعها ذكريات لا تنسى، وتعاودني كل عام كلما هل علينا الشهر الكريم،
أولي هذه الذكريات في حرب اليمن التي اشتركت بها بعد تخرجي في الكلية الحربية بأشهر قليلة، كان عمري وقتئذ لا يتجاوز الثامنة عشرة، وقد بقيت في اليمن ثلاث سنوات كاملة
كان أول رمضان يمر علي هناك بعد وصولي بفترة قصيرة عام 1964، ليتم تكليفي وأنا قائد فصيلة بالهجوم على جبل منعزل.
وبالفعل بدأت المهمة مع فصيلتي لنصل إلي قمة الجبل مساء، وما كادت ساعات الليل أن تنتهي ويبدأ الصباح حتى بدأ هجوم العناصر اليمنية على موقعي لتبدأ المعركة التي استمرت لثلاث ساعات، تمكنا فيها من صد هجوم اليمنيين، كما فقدنا فيها أول شهيد وكان رقيب الفصيلة.
لم تمض سوى ساعات قليلة حتى فوجئنا بأننا أصبحنا محاصرين من اليمنين، وكان تعيين القتال الذي معنا قد بدأ في النفاذ بالفعل ففي اليوم الأول قمنا بتقسيم التعيين الذي لم يكن سوي قالب فولية على قسمي جزء للإفطار وجزء للسحور، ولم نكن نعلم ماذا سنأكل في الأيام التالية ونحن محاصرون بعد أن أبلغتنا القيادة أن فك الحصار لن يتم قبل ثلاثة أيام!.
نظرت حولي فلم أجد إلا الجبال الشاهقة التي تملؤها الصخور، وفجأة وبينما أحاول البحث عن أي بارقة أمل ظهرت لي قرية صغيرة يمنية أسفل الوادي، فما كان مني إلا أن قمت بتعيين مراقب لمعرفة ما يدور بداخلها، وبعد عدة ساعات أبلغني أن القرية قد هجرها أهلها نتيجة أعمال القتال وضرب المدفعية والطيران، لم يكن أمامي حل سوي إرسال دورية قتال للقرية لعلي أجد ما يمكن أن أطعم به جنودي.
وبالفعل ذهبت الدورية للقرية ووفرت لها كل وسائل التأمين والجهاز اللاسلكي وعندما وصلت الدورية هناك أبلغوني أن القرية مهجورة تماما وقد غادرها أهلها. وأخذوا معهم كل شيء ولكن الدورية فوجئت بوجود الزبيب المخزن فالقرية كانت تزرع العنب وهو من أجود ما تشتهر اليمن بزراعته طبقا للمقولة الشهيرة بلح الشام ولا عنب اليمن.
وعادت الدورية تحمل معها عدة أجولة من العنب والمياه وبالطبع تفنن جنودي بوضع الزبيب في المياه لمدة أربع ساعات بعدها تجد وجبة رائعة للإفطار والسحور. والحمد لله أننا أمضينا أربعة أيام نعيش في الإفطار والسحور على الزبيب المنقوع في المياه حتى تم فتح الطريق وفك الحصار.
وفي كل عام عندما يأتي رمضان، أتذكر أن الزبيب أنقذنا من الموت جوعا فوق جبال اليمن.
أما الذكرى الثانية من الصيام والحرب التي ما زلت أتذكرها تماما، فكانت خلال حرب الاستنزاف، بعد حرب يونيو 67، وخلال ست سنوات كان موقعي في منطقة جنوب البحيرات على قناة السويس الذي يبعد عن خط بارليف مسافة 200 متر هي عرض قناة السويس. حيث كانت الاشتباكات مستمرة مع العدو الإسرائيلي طوال الست سنوات.
وفي رمضان كان العدو الإسرائيلي يفاجئنا بشيء مختلف كل يوم، محاولا استغلال معرفته بتوقيت الإفطار بعد أذان المغرب لذلك كان يتعمد اختبار بدء الاشتباك بالنيران وقت الغروب.
وفي اليوم الأول تمكن من كشف حيلة العدو، ولذلك لم نكن نوزع وجبة الإفطار إلا بعد المغرب بساعة، حتى تظل ساخنة، لأن العدو الإسرائيلي كان يبدأ الاشتباك كل يوم مع بدء غروب الشمس.
ولذلك قمت بتقسيم جنودي إلى مجموعتي الأولى تنفذ الاشتباك مع العدو الإسرائيلي والثانية تستعد للإفطار بعد ساعة، ثم تتم المناوبة بين المجموعتين.، كذلك أرسلت أحد جنودي إلى القاهرة لشراء التمور وكنت أوزع التمر عليهم فور الآذان طبقا للسنة الإسلامية.
حتى يتم الإفطار بعدها بساعة.
أما في المساء فكان نصيب موقعي من ضربات النابالم مع توقيت السحور، وهي الهجمات التي كانت تمتد إلى أكثر من ساعتين، خاصة أننا كنا نمضي وقتا طويلا في إطفاء النابالم المشتعل مع كل أجزاء الموقع، وعلي هذا المنوال من المعارك مرت الست سنوات من حرب الاستنزاف.
أما الذكري الأجمل في حياتي عن شهر رمضان فكانت يوم العاشر من رمضان الموافق السادس من أكتوبر 1973، وكنت في مركز القيادة الرئيسي للقوات المسلحة وأتذكر يومها عندما وصل الرئيس السادات في الظهر ودخل المركز خلفه بعض الجنود، يحملون صواني عليها الساندوتشات وعصائر، وتحدث من داخل المركز في الميكروفون لكل القادة والضباط والجنود، ليتم إبلاغ كل القوات التي ستعبر اليوم قناة السويس وتهاجم خط بارليف، أنه حصل على فتوى من المفتي ليجوز لنا الإفطار، لأننا نحارب لاسترداد الأرض، وقام الجنود بالمرور علينا لتوزيع ساندوتشات والعصائر، ولكننا وضعناها في الدرج.
ويشهد الله أن أيا منا لم يتناول حتى رشفة مياه حتى عندما جاء موعد الإفطار فالجميع كان في لهفة وشوق لهذا اليوم الذي انتظرناه منذ ست سنوات كاملة وفي الثامنة مساء عندما جاءت المجموعة الثانية التي نتبادل معها الخدمة والتي ستقوم بالعمل خلال الليل كانت أول مرة لنا جميعا نأخذ رشفة مياه.
وبعد الحرب جمعني لقاء مع مجموعة الأصدقاء من كلية القادة والأركان. التي كنا ندرس بها وكان تخرجنا قبل الحرب مباشرة وهم محسن السلاوي، وأحمد سعودي، وكمال عامر وأخذنا نتذكر معا أحداث الحرب كل منا يحكي عما حدث في موقعه وماذا تم وكانت المفاجأة أن الجبهة بالكامل لم يتناول فيها أي جندي أو ضابط أي نوع من الطعام إلا بعد ثلاثة أيام، فقد كانت فرحة العبور والنصر هي المسيطرة على الكل، وكانت رشفة المياه هي الزاد الوحيد للجميع بعد أذان المغرب حتى تطفئ لهيب حلاوة النصر، خاصة أنه عندما تم فتح الكباري كانت الأولوية الأولى لعبور الدبابات. وبعدها المدفعية وبعدها عربات الذخيرة وأخيرا عربات الطعام.
ولكن فرحة الجميع بنجاح العبور، والنصر وتدمير خط بارليف، من جهة جعلت الجميع يتناسى الإفطار والسحور في شهر رمضان الكريم، لكي نحقق النصر العظيم لمصرنا الغالية ونستعيد أرض سيناء.