الطريق
الإثنين 17 يونيو 2024 12:35 صـ 10 ذو الحجة 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

وفاء أبو السعود تكتب: اعتقال

وفاء ابو السعود
وفاء ابو السعود

جرت العادة أن تطلق هذه الكلمة (اعتقال) على من يرتكب جُرم ما، وبعد محاكمته وتقديم جميع الأدلة على اتهامه يتم أعتقاله داخل محبسه كنوع من أنواع القصاص وتحقيق العدالة، وتختلف العقوبة باختلاف نوع الجرم الذي تم القيام بها و بالألفاظ القانونية تختلف من جريمة إلى جنحة، ولكن في هذا المقال لن نتحدث عن القانون؛
بل سنتحدث عن اعتقال النفس والروح.

إن النفس البشرية هي مصدر الحياة، وسر من أسرار الله، بجانبيها المادي والمعنوي، فضّلها الله على كل المخلوقات بالعقل والإرادة وبقلب يهيمن ويسيطر على ذلك الجسد وعلى أعضائه كافة، يأتمرون بأمره و يجتنبوا بنواهيه.

تلك النفس بروحها عميقة بشكل يثير الدهشة لدرجة لا يمكن إدراكها، ومتشعبة لدرجة لا يصل بشر إلى معرفتها بشكل تام وحقيقي، تُظهر القليل وتخفي الكثير، تحتوي بداخلها على جبال يصعب تسلُقها، وتشمل سهول وهضاب يُستعصى التجول فيها، سلوكها نابع من خلفيتها النفسية والبيئية وجميع الظروف المحيطة.

وما بين الروح والقلب صراع لا ينتهي، فكل منهما يسعى جاهدًا أن يُعظم ذاته ويُحقق رغباته على حساب الآخر، فتكون المعركة دائمة ما بين الحب والكره، بين العطاء والمنع، بين المعصية والهداية، بين الرضا والسخط، بين الخير والشر.

تلك النفس التي تجمع في ذاتها الضدين، فهي ذلك الأسد المتضرع جوعًا، والذي يُريد أن ينقض على فريسته ويلتهمها، وهي تلك الحمل الوديع الذي يقف لك بالمرصاد ليقول لك لا تفعل.

ذلك التيه والشتات الذي يحتل أعماق تلك النفس البشرية أمر جلل، يصاحب صاحبه في كل لحظات حياته بعدد أنفاسه ليلًا ونهارًا، أيامًا وليالي وشهورًا وسنوات، فقد تجتاز ذلك الصراع وتنجح نجاحًا باهرًا أحيانًا أو تخفق وتفشل فشلًا ذريعًا أحيانًا أخرى، وتنتهي بتردٍ نفسي.

وما بين الخوف والأمن والرغبة والرهبة تكون تلك الروح التي تسافر بخيالها أينما أرادت، لا يوقفها زمان ولا يحدها مكان، تذهب أينما أرادت دون قيد أو شرط رغم أن جسدها لم يبرح مكانه.

تسعى جاهدة أن تُجرد صاحبها من كونه إنسانًا، تصطحبه برفق أحيانًا وتصرخ في وجه أحيانًا أخرى، وتحنو عليه أحيانًا وتقسو عليه أحيانًا وتطويه وتسحقه أحيانًا أخرى.

تسعى لتصب رغباته وجنونه في بئر سحيق غير آبهة بما تأن به من أوجاع، غير مهتمة لذلك التمرد الخفي والوحش الكاسر الذي يجيش جيوشه ليسير بها حيث شاء محاربًا كان أو متسللًا خطوة بخطوة ليصل بها إلى مراده.
فكم عانى ذلك الإنسان للوقوف أمام نفسه، يكبح جماحها، يتحدى رغباتها، يكمم أفواهها للوصول بها إلى بر الأمان.

إن النفس البشرية لها مقاييس خاصة، وليس لها كتالوج، تصرفاتها تنعكس من داخلها والبيئة المحيطة، قد تحب ولا تعلم سببًا لذلك الحب، وقد تكره دون مبرر، قد تجامل طواعية وقد تهاجم مجبرة، قد تتشابه في أمور وتختلف في أخرى، حتى تلك الصراعات التي يعيشها ذلك الإنسان المسكين بين المأمول والمرغوب والمتاح، تختلف من شخص لآخر، وتختلف لدى نفس الشخص من وقت لآخر.

وتلك النفس تحتاج دائمًا إلى منهج يقومها وينقيها ويهذبها ويعالج أمراضها ويدفعها دائمًا للرقي والسمو.

كم كنت أتمنى أن أستطيع أن أعبر عما بداخلي بكل صراحة ووضوح، دون قيد أو شرط، أظُهر ما أخفيه، دون أي خوف، أسير في دروبي غير مبالية بأي شيء، أتمرد على كل شيء، أفعل ما تصبو إليه نفسي، أثور على تلك المبادئ التي أصبحت بالية، أخرج ذلك الطفل الذي ظل حبيسًا خلف الأسوار، أترك لنفسي الحبل على الغارب، أقضيها ذهابًا وإيابًا، أستمتع بكل التفاهات، أضحك من أعماق قلبي حتى تنهك جوارحي، أو أبكي بكل ما فيّ، فتختلط دموعي بدمائي ليسيرًا سويًا داخل شراييني.

إن الوقوف في منتصف الطريق ما بين الروح والنفس أمر في غاية الصعوبة، يحدث داخل النفس فتعيش معاناة دائمة، وتتنازع وتتعثر، وعلى حسب أينما تكون، فكلما اقتربت النفس إلى روحها ازدادت نورًا على نورها، وكلما ابتعدت النفس عن تلك الروح ازدادت ظلمة فتنطفئ مصابيح الروح والهدى بداخلها.

وما بين الرغبة في الحياة والاستمتاع بكل ملذاتها والرغبة في البقاء والاستعداد للموت وظُلمة النفس أو نورها تظل تلك الصراعات قائمة، فيأخذك حب الحياة شوطًا وتستعيد توازنك أشواطًا أخرى.

ستظل الحياة معادلة صعبة يُستعصى تحقيقها، وسيظل كل منهما حبيس الآخر منذ البداية وحتى النهاية لإرادة ربانية سامية وحكمة إلهية بالغة، أن يظل كلاهما حبيس الآخر.
اعتقال لروح تود لو تسكن أينما أرادت، تسبح في عالمها، تستقي من نور السماء نورًا يبدد ظلمتها، واعتقال لنفس ولقلب يخفق بكل نبضة من نبضاته مطالبًا أن يُفك أسره وتُحطم أسوار تلك القضبان الذي ظل حبيسًا خلفها.

علينا دائمًا أن نتذكر أن هناك بابًا واسعًا يخفي وراءه مفاتيح كثيرة يمكن بها أن تكون السلاح الأقوى لحل معظم الأزمات، وكذلك علينا أن نتذكر أننا لن نأخذ من الحياة أكثر مما هو مقسوم، وأنه لا أحد يمتلك حياة كاملة ولا قلبًا خاليًا ولا رأسًا فارغًا من الأعباء والأوجاع.
إن الثبات على المبدأ في هذا الوقت وهذا الزمن ضرب من الخيال، لأن تقف صامدًا متحديًا لكل أنواع الضغوط أمر ليس باليسير، فإنه يُسعدك ويُشقيك في الوقت نفسه،
فتعيش مرارة خضوعك لها وتستشعر نشوى انتصاراتك عليها.

وعند الحنين إلى الدنيا تذكر أنك تسير بخطوات إحداها ترسم للغد والمستقبل معالمه، والثانية تسير في الطريق المضاد لتمحو كل أثاره، وتذكر كذلك أن هنا ليس مكانك ولا مقرك، ولكنها إرادة الله أن تظل تلك الروح في حبس احتياطي داخل تلك النفس والحكم آخر الجلسة.

حكمت المحكمة بحبس تلك الروح داخل جسدها لمدة... عامًا مع مراعاة أن لا يجدد لها في الميعاد.