شحاته زكريا يكتب: الوعي بوصفه أداة للبقاء والنهضة

الوعي ليس رفاهية فكرية ولا ترفًا معرفيًا ، بل هو عصب الحياة الاجتماعية وشرط أساسي للبقاء والنهضة. المجتمعات التي تفتقر إلى الوعي تتعثر وتتراجع ، بينما المجتمعات التي تمتلك وعيا ناضجا قادرة على التطور والصمود أمام التحديات. لكنه لا ينشأ فجأة بل هو محصلة تراكمية للتجارب والتعليم والثقافة والإعلام. الفرد مهما بلغت قدراته لا يمكنه تحقيق أي إنجاز حقيقي بمعزل عن المجتمع والوعي الحقيقي يبدأ عندما يدرك الإنسان أنه ليس كائنًا مستقلًا بذاته وإنما هو جزء من نسيج اجتماعي له حقوق وعليه واجبات وأن تقدمه مرهون بتقدم الجماعة والعكس صحيح.
لو تأملنا التاريخ لوجدنا أن الأمم التي ازدهرت لم تحقق ذلك من خلال العزلة بل من خلال التعاون والتفاعل مع الآخرين. التعاون ليس مجرد فعل اجتماعي بل هو ضرورة وجودية، وهو ما أكده ابن خلدون حين قال إن الإنسان لا يستطيع بمفرده تحصيل حاجاته الأساسية، بل يحتاج إلى تعاون الآخرين. لا يعني ذلك فقط تقاسم الأدوار في الإنتاج والاستهلاك بل يشمل أيضًا تقاسم المعرفة وتبادل الخبرات وتكامل الجهود في مواجهة الأزمات. إن المجتمعات التي تعزز ثقافة التعاون قادرة على تجاوز أزماتها بينما المجتمعات التي يسودها الصراع والتشرذم تجد نفسها عاجزة عن التقدم.
اللغة ليست مجرد أداة تواصل بل هي وعاء للفكر وجسر لنقل المعرفة وسلاح لصياغة الوعي الجمعي. المجتمعات التي تمتلك لغة غنية ومتجددة تكون أكثر قدرة على التطور لأن اللغة ليست مجرد كلمات بل هي منظومة متكاملة تعكس طريقة التفكير وتحدد شكل العلاقات بين الأفراد والجماعات. أي تراجع في مستوى الوعي اللغوي يؤدي إلى تراجع في مستوى التفكير ، وهذا ما نراه في بعض المجتمعات التي تفقد تدريجيا قدرتها على التعبير الدقيق عن قضاياها فتقع في فخ التسطيح والتبسيط مما يؤثر على قدرتها في التعامل مع الواقع.
كل مجتمع يمتلك منظومة قيمية خاصة تعكس هويته وتوجهاته. هذه القيم ليست شعارات ، بل هي قواعد تحكم العلاقات الاجتماعية وتحدد ملامح السلوك العام. وللحفاظ على هذه القيم ، تلجأ المجتمعات إلى الطقوس التي تعزز الروابط بين الأفراد.وتكرس الشعور بالانتماء. الطقوس ليست مجرد ممارسات شكلية.بل هي آليات ثقافية تحافظ على تماسك المجتمع. الطقوس الدينية والاجتماعية تلعب دورا مهمًا في ترسيخ الإحساس بالهوية المشتركة. في المجتمعات التقليدية كانت الطقوس تمثل رابطا قويا بين الأفراد ، أما في العصر الحديث فقد فقدت الكثير من الطقوس معناها مما أدى إلى تآكل الروابط الاجتماعية وانتشار الفردانية المفرطة.
الوعي الحقيقي لا يكتمل إلا بالإيثار أي القدرة على تجاوز الذات والنظر إلى الآخر بعين المشاركة لا بعين المنافسة والصراع. إن المجتمعات التي تؤمن بقيمة الإيثار تجد نفسها أكثر قدرة على التقدم لأن أفرادها يدركون أن نجاح الفرد لا ينفصل عن نجاح الجماعة. في عالم تسوده الفردانية المفرطة، يصبح الإيثار عملة نادرة لكنه يظل ضرورة لاستمرار أي مجتمع. فالمجتمعات التي تربي أبناءها على العطاء والتعاون والتكافل تكون أكثر تماسكا بينما المجتمعات التي يغيب فيها هذا الشعور تصبح أكثر هشاشة وأكثر عرضة للتفكك.
نحن نعيش في عالم مليء بالتحديات، حيث لم يعد البقاء للأقوى بل للأكثر وعيا وقدرة على التكيف. المجتمعات التي تدرك أهمية الوعي وتسعى لتعزيزه هي المجتمعات التي تمتلك مستقبلاً حقيقيًا أما المجتمعات التي تغيب عنها هذه الحقيقة فهي تضع نفسها على طريق التراجع. الوعي ليس شعارا ولا ترفا فكريا بل هو الأساس الذي تقوم عليه الحضارات. فإذا أردنا بناء مستقبل أفضل، علينا أن نبدأ بتعزيز وعينا كأفراد وكأمة، لأن الوعي هو مفتاح النهضة وهو السبيل الوحيد لتحقيق التقدم والازدهار