الطريق
الخميس 25 أبريل 2024 04:25 مـ 16 شوال 1445 هـ
جريدة الطريق
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب
رئيس مجلس الإدارةمدحت حسنين بركات رئيس التحريرمحمد رجب

عبدالباسط عبدالصمد.. صوت عموم المسلمين

الشيخ عبد الباسط
الشيخ عبد الباسط

صاحب الحنجرة الفضية من مقابر أرمنت إلى الحرم المكي

قصة أول اختبار بـ«الصدفة» في مسجد السيدة جعله أشهر قارئ في العالم الإسلامي

صوت الإنسان مثل لون عينيه ليس له دخل فيه وليس له دلالة

كثيرون هم من كتبوا عن الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وجمال صوته لكن يبقى محمود السعدني هو الأفضل في تلك المساحة.

وقال السعدني عنه في كتاب ألحان السماء «عبد الباسط عبد الصمد له صوت جميل ونفسية طيبة أيضًا، وعندما يكون لك نفسية طيبة وصوت قبيح، فلن تكسب شيئًا. فإذا كان لك صوت جميل ونفسية من أى لون فستصبح ثريًا وشهيرًا قبل أن تبلغ الثلاثين، فإذا كان صوتك من معدن الشيخ عبدالباسط، فأنت تستطيع أن تدخل التاريخ كصاحب صوت وطريقة من أجمل ما عرفته دولة التلاوة فى تاريخها الطويل».

بدأ الشيخ عبدالباسط يعشق سماع القرآن الكريم من المشايخ الكبار فى مساجد أرمنت وفى مقابرها، ولكنه كان يفضل سماعه منبعثًا من ذلك الصندوق السحرى الذى اسمه الراديو.

وفى عام ۱۹۳۹ كان هذا الصندوق أندر من الذهب، وكان فى أرمنت كلها راديو واحد يبعد عن بيت الشيخ عدة أميال، وكان الشيخ يذهب حيث يوجد الصندوق مرتين كل أسبوع، مرة فى يوم الثلاثاء ومرة أخرى فى يوم الجمعة، وهذه اللحظات التى كان يقضيها بجوار الصندوق هى أسعد لحظات عمره.

كان يجلس مستندًا على جدار الدكان، والصندوق السحری ينبعث من داخله صوت كأنه السحر، صوت فيه شجن وفيه قوة وفيه خشوع وفيه رهبة، وفيه دعوة إلى ملكوت الله!، كان هو صوت المرحوم الشيخ محمد رفعت.

وفى عام 1940 بدأ الشيخ عبدالباسط يحترف قراءة القرآن، وكانت أولى لياليه فى قريته، وفى مأتم أحد أقاربه، وقرأ عشر ساعات كاملة، ثم نقدوه أجره فى الصباح، وكان الأجر عشرة قروش فضة، كبيرة مثل العيش المرحرح وعليها نقوش بارزة تقول بأنها ضربت فى عهد السلطان!.

واشترى الشيخ حلاوة طحينية وملبن وكراملة وفول سودانی ولب، ووضع الباقى فى حصالة. فقد كان حلمه الكبير أن يقطع تذكرة ويركب القطار إلى بلد بعيد!، وفى سن الخامسة عشرة تحقق حلمه الكبير.

ركب القطار القشاش من أرمنت إلى قرية مجاورة وسهر هناك حتى الصباح، وعاد ومعه خمسة وعشرون قرشًا كاملة!. وكانت هذه الليلة هى تاريخ ميلاده، ففى تلك الليلة ولد قارئ جديد، صوته قوى وجميل، وهو شاب وصحته جيدة، وله أسلوب فى القراءة لا يقلد فيه أحدًا، وإنما هو لون جديد!.

ومن تلك الليلة بدأت شهرة الشيخ عبدالباسط، وانفتحت أمامه قصور العمد والأعيان وباشوات الصعيد، وأصبح جواب أفاق، يخرج من بيته أول الشهر فلا يعود إليه إلا فى نهايته.

وتزوج وأنجب، وعبر البحر إلى بيت الله الحرام، وقرأ فى الكعبة الشريفة، وعلى مسمع من نصف مليون من البشر، بينهم الهندى والعربى والتركى وابن القوقاز والذي من نسل المغول! ثم عاد ليعيش فى قريته مرة أخرى.

وفى عام 1950 جاء الشيخ إلى القاهرة ليزور السيدة زينب، وفى ليالي المولد كان يندس فى الزحام كل ليلة مجهولًا مغمورًا، يتفرج على الأضواء والألعاب وعلى الأذكار، ويخلع نعليه ويزحف إلى داخل المسجد، ليستمع إلى القرّاء الكبار، وفى الليلة الختامية كان هناك أكثر من قارئ عملاق يخوضون فيما بينهم معركة حامية لإحياء مولد السيدة، ثم أدرك التعب هؤلاء المشايخ الكبار فكفوا عن التلاوة، ثم دعا بعض الناس الشيخ عبدالباسط إلى القراءة، فهو على الأقل يستطيع أن يقتل الوقت حتى يستريح المشايخ الكبار، ويستأنفوا التلاوة.

وتقدم الشيخ عبدالباسط على حذر، وقرأ وهو يتوجس شرًا والناس أيضًا يتوقعون شرًا، وعندما انتهى من التلاوة كان الفجر على الأبواب، وكان المسجد قد ضاق بالناس، وخرج من المسجد فى الصباح وعلى يديه ألف قبلة، ومعه أكثر من عقد لإحياء الليالى هنا وهناك، ولأول مرة أيضًا وصلت إلى يديه عشرة جنيهات كاملة.. ثم عشرون.. ثم ثلاثون.. ثم خمسون، وعند ذلك قرر اعتزال الصعب والبقاء إلى الأبد فى القاهرة، ونام الشيخ عبدالباسط فى لوكاند الشرق فى السيدة زينب، ولم يمض عامان حتى وصل صوته إلى الإذاعة، ووصل أجره ۱۲جنيهًا كل نصف ساعة، ووصل أجره بالليلة إلى مائة جنيه، وغادر الشيخ عبدالباسط القاهرة إلى أرمنت ثم عاد ومعه كل العائلة، شقيقان وزوجته ونصف دستة.

وذاع صيت الشيخ فى كل مكان، وقفز أجره إلى مائتى جنيه ثم ثلاثمائة.

والشيخ عبدالباسط طاف حول الكرة الأرضية وذهب إلى الشرق وإلى الغرب، ولم يثر انتباهه شىء فى تلك البلاد إلا المعجبون بفنه. فى إندونيسيا مثلًا كان المعجبون يقفون بالساعات ليستمعوا إليه، وفى مراكش قرأ للملك وحده، وفى باريس لم يجد مستمعين ولم يجد معجبين فشعر بالاختناق وهجرها بعد ثلاثة أيام، هجرها إلى كازابلانكا، وهو لا يذكر من باريس إلا شارع نهر والقفطان.. الصين «السين»، وكان يحلو له أن يتنزه فيه كل مساء وهو بالجبة.

والشيخ عبدالباسط لم يؤمن بالسينما ولا بالمسرح ويحب القراءة، وأحسن كاتب قصة فى نظره هو عباس العقاد!. طه حسين كويس أيضًا، وهو مدمن قراءة صحف، وأحسن كتّاب الصحف هو محمد حسنين هيكل ثم كامل الشناوى، ولا يغيظه فى الجرائد إلا الكذب، إنها تكذب كثيرًا، روت عنه أخبارًا ملفقة وقصصًا من نسيج الخيال، وأطلقت عليه اسم «براندو» وهو يشعر بالأسف لإطلاق هذا الاسم عليه، لأن براندو ممثل ولأنه أمريكانی، ولكن الشيخ يتسامح مع الصحفى حتى لو أساء إليه!.

والشيخ عبدالباسط لم يقرأ شعرًا ولم يهتم بالشعراء، وسمع أن هناك رجلًا اسمه شوقى، ولم يعلم إن كان حيًا يرزق أو طواه القبر، ويعرف أن توفيق الحكيم هو رئيس الشعراء، وكان أحيانًا يسمع الأغانى، وأحسن مطرب لديه كان محمد عبدالوهاب، وأحسن أغانيه هى فى الليل لما خلى، وفايت على بيت الحبايب، وعبدالحليم حافظ مش بطال، وأم كلثوم معجزة.. فلتة لن يجود بمثلها الزمان، إنها فى الطرب مثل الشيخ محمد رفعت فى التلاوة، وكلاهما عبقری وكلاهما فيه سحر من عند الله.